الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ماذا يعني لي بوب ديلان؟

حامد الحمود
A+ A-

إلى فهد صالح الشايع،
عندما سمعت بفوز المغني الأميركي بوب ديلان بـ"نوبل" للآداب، غمرني شعور بالفرح أكثر بكثير من ذلك الشعور عندما فاز بها نجيب محفوظ وغابرييل غارسيا ماركيز. صحيح أن الاثنين أديبان عظيمان، وقرأت كثيرا للاثنين، لكن بوب ديلان غير.


هو بمثابة الصديق معي بالسيارة، وهو معي عندما أكون وحيداً في الشاليه. لكن انتابني شعور آخر كذلك. فوددت لو أن فهد الشايع كان حياً، ليس لأحتفل معه، وإنما لأقول له، "غلبتك يا فهد". كان معي حق عندما أدمنتُ على سماعه بالرغم من شكواك: "ذبحتنا حامد... بوب ديلان... بوب ديلان. مَلينا".
كان هذا إما في شقتي في آربر ميتشيغن أو في شقته في واشنطن دي سي، وبعدما رجعنا إلى الكويت، كان فهد يردد: "حامد، والله هذا يهودي عراقي... أغانيه كلها حزن وبكاء". وفهد يعرف أنه يهودي من ولاية مينيسوتا وأنه تحول إلى المسيحية. لكن كيف بدأت علاقتي بموسيقى بوب ديلان وكلماته الشاعرية؟
كان ذلك في مبنى "فيسك هول"، في مختبر اللغة عام 1970، عندما التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت. ولأن لغتنا الإنكليزية لا تؤهلنا لبدء السنة الأولى في الجامعة، كان علينا قضاء نحو تسعة أشهر لدراسة اللغة. وكانت تلك المرة الأولى عندما كان "واجبنا" أن نسمع بوب ديلان يغني "بلون إن ذا ويند" والتي يمكن ترجمتها إلى "في مهب الريح ". فكان يصدح في أذني:
"نعم كم سيبقى الجبل موجوداً
قبل أن يجرف إلى البحر؟
نعم كم سنة سيستمر بعض الناس في قيودهم
قبل أن يسمح بتحريرهم
نعم كم سنة سيتجنب النظر إلى الأمام
مدعياً أنه لا يستطيع أن يرى
الجواب يا صديقي في مهب الريح... في مهب الريح".
كنا نحو مئتي طالب في معهد اللغة، أردنيون ولبنانيون وسعوديون وبحرينيون وعُمانيون، ونحن الكويتيون كنا مجموعة منسجمة مع بعضها أكثر من اللازم. وكلٌ من مر بالمعهد يتذكر أغنية بوب ديلان، لكن التأثر بها كان متفاوتاً. وربما أعتبر نفسي من الذين أحبوها لدرجة كبيرة وتفاعلوا مع موسيقاها ومعانيها. وقد يرجع ذلك إلى أني كنت مهيأ لذلك. فبوب ديلان يدعو إلى التمرد على الأمر الواقع وإيجاد معانٍ جديدة للحياة، وإلى نبذ النفاق السياسي. وكانت لي اطلاعات سياسية وفكرية في سن مبكرة. فقد نشأت في بيت موبوء بقراءة الكتب والمجلات والصحف. "الآداب" و"الأديب" و"الطريق" و "النهار" اللبنانية وملحقها. كان علي أحيانا أن "أُطهر" نفسي من هذا الوباء لكي أنسجم أكثر مع المجتمع لأقلل من غربتي. فقد قرأت "قصة حياتي" لجواهر لال نهرو وأنا في الرابع المتوسط، و"الوعد الحق" و"الأيام" لطه حسين في الأول ثانوي، وفي الثاني ثانوي، قرأت "مذكرات امرأة لامبالية " لنزار قباني و"الجنس الآخر" لسيمون دوبوفوار، صديقة الفيلسوف جان بول سارتر. وفي الرابع ثانوي كان هاجسي أن أحصل على بعثة لأدرس خارج الكويت.
ولربما يرجع قربي لبوب ديلان لصداقات طورتُها مع الطلبة الأميركيين الذين كانوا يدرسون في السنة الثالثة من مقررهم الدراسي في الجامعة الأميركية. ففي أول كريسماس لي في بيروت، رجع معظم الطلبة إلى الكويت بينما رافقت أنا ثلاثة أصدقاء أميركيين لرحلة إلى فيينا عبر "الأورينت اكسبريس" الذي أخذناه من اسطنبول إلى فيينا.
ويُعرف عن أغاني ديلان أنها كانت داعية ومحفزة إلى الثورة الطلابية التي اجتاحت أميركا في الستينات من القرن الماضي، فكانت موسيقاه وكلماته تُردد من قبل الطلاب، بينما كان الطلاب يقرأون "النبي" لجبران خليل جبران، وبعضهم تأثر بمدرسة فرانكفورت لعلم الاجتماع. لذا عندما نسمع ديلان مغنياً في "العالم السياسي":
"نحن نعيش في عالم سياسي
ليس للحب فيه مكان
نحن نعيش في وقت
يرتكب فيه البشر الجرائم
وليس للجريمة وجه محدد
فيه الجليد معلق كالرماح
أجراس الزفاف تدق، والملائكة تغني
وفيه تعطي الغيوم الأرض
نعيش في عالم سياسي
تُرمى فيه الحكمة بالسجن
وتُتركُ لتتعفن في غرفه السجن
مضللة الجميع لنهاية الطريق
نعيش في عالم سياسي
تمشي فيه الرحمة وفقاً للبرنامج السياسي".
والثورة الطلابية التي اجتاحت أميركا في الستينات من القرن الماضي، وصلت متأخرة إلى حرم الجامعة الأميركية في بيروت. فجاء الإضراب الكبير في أيار 1971 بسبب ارتفاع الأقساط الدراسية، فشاركت فيه متعاطفاً مع من يدفع أقساطاً دراسية لأني كنت طالب بعثة. وكانت تجربة مهمة في حياتي اكتشفت فيها مستوى الفساد حتى على الجسم الطلابي. وتبين لي أن كثيرين من القيادات الطلابية ينتمون إلى عائلات لها نفوذ سياسي ومالي، وأن توجهها اليساري مجرد نوع من مجاراة الموضة.
السياسة والإضراب والضجر جعلتني أنحو إلى تكوين رؤية نقدية. وأذكر أنه عندما كان الأستاذ مايلز يزرع في أذهاننا في معهد اللغة أن الجامعة هي أعظم جامعة وأن خريجيها هم الأفضل في العالم العربي، مشيراً إلى أن الجامعة التي كانت ممثلةً بأكثر عدد من مندوبي الدول في اجتماع تأسيس الأمم المتحدة في نيويورك، كانت الجامعة الأميركية في بيروت، فممثلو لبنان والعراق وسوريا ودول عربية أخرى كانوا من خريجيها. لكني لم أترك هذه الحقيقة من دون تعليق، فأبديتُ امتعاضاً على الطريقة التي قدمها بها الأستاذ ورفعت يدي محتجاً: "هذه حقيقة لكن السبب ليس لأنهم من خريجي الجامعة الأميركية، بل لأنهم ينتمون إلى عائلات لها نفوذ، تدعم وصول أبنائها إلى مناصب قيادية سياسية. فما كان منه إلا أن خاطبني:" لديك عقل نقدي يا حامد".
وقد يرجع إعجابي بموسيقى ديلان وشعره إلى إعجاب بشخصيته التي أجد أن هناك بعض ملامح التشابه بيننا. فديلان يحمل بذور شخصية متمردة. تمردَ على قيم عائلته اليهودية أكثر من مرة. الأولى بتحوله إلى المسيحية والثانية بتركه الدراسة بعد السنة الأولى في الجامعة. والحقيقة أني لا أملك مواهب ديلان لا في الموسيقى ولا في الشعر لأكون "مؤهلاً" لترك الدراسة. فالحصول على الشهادة الدراسية كان بالنسبة إلي المستقبل كله. وكان هذا سبّب لي معاناة في المرحلة التمهيدية للطب في الجامعة الأميركية أو في كلية الهندسة في جامعة ميتشيغن.
في بيروت رماني القدر بين طلاب يتنافسون في الدراسة لدرجة أن أغلبهم لا يعرف إلا كيف يدرس. بعد كل امتحان يتجهون إلى المكتبة لمزيد من الدراسة، بينما كان كاتب هذه السطور يتوجه إلى السينما بعد الامتحان أو يقوم بنشاطات اجتماعية أخرى. أما في ميتشيغن، فكنت بين طلبة محافظين نسبياً وتوجهاتهم جمهورية. وأعتقد أن غالبية الأحياء منهم صوتوا لدونالد ترامب. هذه الحال في كل كليات الهندسة في أميركا. فهذه الكليات هي قواعد للحزب الجمهوري وهناك دراسات وأبحاث كثيرة حول هذا الموضوع.
ولعل أكثر ما يجذبني في ديلان هو دعوته إلى التغيير وتقبل الآخر ونبذ العنصرية. وقد يستغرب القارئ إن إدعيت أن ما تحمله أغاني ديلان وأشعاره قيمٌ موجودة في القرآن الكريم. فأغنيته المشهورة "الأوقات تتغير" متسقة مع فحوى الآية الكريمة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وقصيدته "مرض الغطرسة" متسقة مع كثير من الآيات الكريمة التي تدعو إلى التواضع وتحقر بالمستكبرين والمتغطرسين. ولي إعجاب كبير بالآية الكريمة: "وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون" (البقرة 13).
وأعود إلى بوب ديلان والصديق المرحوم فهد الشايع، فكثافة استماعي إلى ديلان لم تكن في بيروت، وإنما في آن آربر في ولاية ميتشيغن. كنتُ أزور فهد في واشنطن دي سي بعد تركه لبيروت لأميركا بعد الحرب التي نشبت في 13 نيسان 1975، وكان يزورني من دون تخطيط. نتخذ القرار خلال يوم أو يومين، مع أن التذكرة كانت نحو ستين دولاراً، والراتب لا يتعدى 500 دولار يذهب أكثر من نصفه لإيجار شقة ومصاريف العيش المختلفة. وجزء من
سبب لقاءاتنا كان ضجرنا مما حولنا.
وعندما نتحدث عن الموسيقى، يكون فهد أكثر معرفة وثقافة بها، فكان يستمع للموسيقى بالهندية والأوردو والإنكليزية لم يكن يستمع إلى الموسيقى العربية عندما عرفته في بيروت، لكني فوجئت بأنه عندما جاء إلى أميركا، كان مغرماً بالموسيقى العراقية وكاد يغرق بها. وأصبحت أنا الذي سمعتها صغيراً، تلميذاً لفهد في الموسيقى العراقية. سبحان مغير الأحوال. أنا أسمع لديلان وبول سايمون وباربرا سترايسند. وفهد يسمع للغزالي والياس خضر وسليمة مراد. لذا عندما كان يحتج علي بأنه ضجر من ديلان، وأنه يهودي عراقي يغني أغاني حزينة، لم يكن يرغب بسماع نوع آخر من الموسيقى الغربية، بل كان يريد موسيقى عراقية. وكان ردي عليه: " يا فهد اسمع اسمع، هذا بوب ديلان يصرخ يا ريل صيح بقهر ... صيحة عشق يا ريل"، ولكن بطريقة أخرى...


كاتب كويتي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم