الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

دودة تنخر نقاء الروح

المصدر: "النهار"
رلى راشد
دودة تنخر نقاء الروح
دودة تنخر نقاء الروح
A+ A-

ثمة متعة في قراءة روايات خافيير مارياس لا توازيها سوى متعة متابعة مقابلاته. على النحو عينه من الدقة والإتقان الذي يلفّ مؤلّفاته، يعمد الكاتب الإسباني إلى الإجابة على كل سؤال يُطرح عليه ويستدرجه أحياناً إلى أبعاد لم تكن محسوبة في الإستفهام، في الأساس.
حدَث كثيرٌ من هذا حين التقته أخيراً "ذي ليتراري هاب" لتحاوره في مسائل مختلفة تبدأ بشكسبير ولا تنتهي عند الديكتاتورية وأشباح الكتابة. وفي حين تتحضّر الولايات المتحدة الأميركية لصدور رواية مارياس الأحدث بالإنكليزية بهوية "هكذا يبدأ السيىء" المُقترضة في العنوان من شكسبير والمنقولة عن القشتالية، يُطلّ مارياس منظّراً في أحوال السياسة والعباد والطارئين على مهنة القلم.
كانت الشرارة الأولى في مسيرة مارياس هروباً مُبكراً إلى باريس في غمرة تمرّد المراهقة وحيث كتب روايته البكر "قدرات الذئب"، ألحقها بترجمات لكونراد وفوكنر ونابوكوف وسواهم. وبعدما شذّبت هذه المغامرة تخييله ومنحته أدوات الكتابة أتبعها بعناوين روائية من قبيل "رواية أوكسفورد" (1989) و"قلب بهذا البياض" (1992) و"غداً في المعركة فكّري فيَّ" (1994) التي تعتبر من كلاسيكيات الآداب بالقشتالية، إلى جانب غواية قصصيّة تمثّلت بـ "خلال نومهن".
وإذا كان الكاتب مارياس وهو عضو "الأكاديمية الملكية الأسبانية" حساساً أمام عزلة روّاد الغربة على ما بيّن في "رواية أوكسفورد"، فإنه شديد الإنفعال أيضاً إزاء ما يحوطه على المستويين الوطني والسياسي، في موازاة إدراكه للخطوط الفاصلة بين دورَي الكاتب والمواطن.
في "رواية أوكسفورد" وصف مارياس رجلا وحيدا ملقى في مدينة غريبة، غير أنه يراقب ويحلل ويصنّف، وها إنه وعلى شاكلة هذه الشخصيّة المتصوّرة قادر ورغم غربة الأزمنة الأدبية، على مقاربة الإلتزام ومن جوانبها كافة. حين يُسأل مارياس في المقابلة عن وجود فرق بين الكاتب الملتزم سياسيا والمواطن الملتزم سياسيا وهو الذي مرّ بالتخييل وبالصحافة على السواء، يشدّد على انه وفي حين ينبغي للمواطن أن ينخرط في الإلتزام السياسي على نحو ما فعله خلال السنوات العشرين المنصرمة في إطار مقالاته المنشورة في كل يوم أحد، لا ينسحب هذا الموقف في عرفه على الكُتّاب.
يذكُر مارياس "في كل مرّة أقرأ نصاً أدبيا، لا يهمني أن ألقّن في طيّاته رسالة أو أطروحة أو نشرة أو درساً أو أمثولة أخلاقية. ذلك ان هذا التوجّه يُنتج في الإجمال نوعاً أدبياً سيئاً جداً وعلى مباشرة فاضحة. والحال ان ثمة وفرة في هذا النسق، في أيامنا".
من طريق الكلام البسيط يضع مارياس إصبعه على جرح الأدب المُلتهم ويرصد نزعة صارت شبه عرف وتقوم على استدرار مشبوه لتعاطف الناس من خلال خدعة موصوفة. يدلّل مارياس على أعمال تحتمي من منطق النقد التقليدي من خلال رفع "درع" واقٍ يشكّله الدفاع عن القضايا التي تحظى بشعبية، ليصير تالياً أي نقد للعمل الفنّي بمثابة تجاسر على القضيّة المحقّة التي يستظلّ بها.
حين كتب مارياس نصوصاً تدور في فلك الحوادث التاريخية لم يطمح إلى جعلها مؤلّفات سياسية بالمعنى الخالص مفضلاً على هذا المنحى التبسيطي الإيغال في سرد الحيوات الفردية والشخصية والطباع الإنسانية المرتبكة من جراء التطورات السياسية القاصمة.
أصرّ مارياس أن يظلّ واحداً من الكتّاب الذين لا يستهوون الألعاب الكتابيّة المشبوهة لإدراكه ان خديعة الآخرين أمرٌ هيّن في الظاهر، غير انه في الباطن دودة تنخر ما بقي من نقاء الروح.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم