الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مدينتي الرقّة في مستنقع اللجوء

المصدر: "النهار"
أريج الزيدي
مدينتي الرقّة في مستنقع اللجوء
مدينتي الرقّة في مستنقع اللجوء
A+ A-

حين قرأت "مجنون إلسا" لأراغون، لم أكن أعتقد أني سأستحضر عنوان ذلك الكتاب، وأنا أكتب عن الرقة. كنت أعتقد أني "سأتمثقف" على قريناتي وأقراني بما بقي في ذاكرتي من كلمات الشاعر الفرنسي، وربما أقتبس منه جملاً، ومقاطع في رسائلي التي لم أكتبها بعد.


حين انزلقنا في مستنقع اللجوء، استيقظ في نفسي ما كان نائماً، وإذ الرقة مسقط أحلامي، التي تبحث عنها عيوني في نشرات الأخبار، وإذ "بلهجتي" التي كنت أخجل منها تصبح الدليل الأهم على "رقاويتي"، وصرت أجوب المخيمات بحثاً عن تلك "الجيم" المصرية، التي عرفت متأخرة أنها ليست حكراً على "الرقاويين" وحدهم في سوريا! وكنت في كل مخيم أجد دليلاً على سوريّة مواطنيه، في الحزن الذي يأخذ شكل الابتسامة في العيون، في خجل المراهقين مما آلت إليه أحلامهم، وفي ترحاب العجائز، ولغتهن العاطفية التي تلامس شغاف القلب، تلك العجائز "حباباتي" اللواتي لم تستطع القوى الكونية التي اجتمعت علينا أن تسلبهن طيبتهن.
كنت في كل خيمة أجدني محاصرة بدعواتهن، وابتساماتهن العذبة. لكم فتحت لي تلك اللهجة من قلوب في المخيمات التي زرتها. في تلك المخيمات تذوقت ضحكات أطفال، لم أجد لها مثيلاً لدى الأطفال الذين رأيتهم في رفقة أهلهم في "بيروت مول" و"سيتي سنتر" و"سوليدير"، وغيرها من أماكن التسوق والترف اللبناني، ورأيت كيف يتحول الوطن إلى ذاكرة مضادة للنسيان.
لا يمكن العاقل أن يزور تلك المخيمات، ولا تستيقظ أوجاعه، الحاضرة منها، والمنسية أيضاً. أولئك هم أهلي الذين أزورهم كلما بلّل الشوق قمصان قلبي، وقد كانت الرقة وجعي الذي لا أريد أن أشفى منه. فالرقة ليست المدينة التي أريد العيش فيها. إنها الذاكرة التي تعيش فيّ، تلك الذاكرة التي تنتابني، وتسلبني ثقتي بالادعاءات الإنسانية لهذا العالم، الذي تداعت أسرار جدرانه فسقط علينا!
حين أقبل الشتاء، أقبلت معه تباشير وكالات الأنباء ببرد ينخر العظام، فقمت مع ثلّة من الأصدقاء والمهتمين بالشأن العام بحملة "دفّيني معك". آنذاك كنت أعتقد أن السوريين ليسوا وحيدين. مع الأسف كنا وحدنا، وكل ما حولنا مجرد شعارات. اليوم ثمة أخطار كثيرة تحيق بنا، وكلنا نعلم أننا محاصرون بقوانين الحكومة اللبنانية والطقس، وكلاهما علينا. فبأيّ مآسينا نبدأ؟ أبالقوانين اللبنانية، أم بالمساعدات التي نسمع بها ولا نراها، أم بالأطفال الذين غادروا مدارسهم، وتفرغوا للنبش في حاويات القمامة، أم بالماء غير الصالح للشرب، أم بالمرض والتشرد والتفكك الأسري؟!
مدينتي الرقّة في مستنقعات اللجوء. ليتنا متنا في بلادنا، ولم تقتلنا مخيمات اللجوء، في لبنان وغيرها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم