الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

عاشوراء وطقوس الحُزنِ والنَدْبِ

سعود المولى
عاشوراء وطقوس الحُزنِ والنَدْبِ
عاشوراء وطقوس الحُزنِ والنَدْبِ
A+ A-

أقدمُ إشارة في التاريخ إلى الحزن الجماعي المنظّم هي في ما يبدو تلك التي ترد في ملحمة كلكامش (حدود عام 3200 - 3000 ق. م.). فحين عرضت الآلهة عشتار الزواج على كلكامش خاطبها بقوله: "من أجل تموز حبيب صباك قضيتِ بالبكاء سنة بعد سنة". وهذا يشير إلى عادة الندب والبكاء على تموز إله الخضرة والربيع حيث كان الاعتقاد أنه ينزل إلى العالم السفلي في الخريف، ويعود إلى الحياة مع بشائر الربيع.


صوّره الشعراء البابليون راعياً مات في زهرة شبابه فنزلت عشتروت إلى جهنم لتلاقيه وتعيد إليه الحياة عابرة الأبواب السبعة من مساكن الموتى. وفي اليوم الثاني من الشهر الرابع من السنة البابلية الذي يقابل أول تموز/ يوليو في عُرفنا اليوم، كانوا في بابل يغنون قصائد الشعراء المنظومة لذكرى موته فدعي الشهر تموز من أجل ذلك.
تطورت هذه المراسيم في العراق نفسه فوجِّه هذا البكاء عند البابليين إلى الإله مردوك في اليوم السابع من نيسان/ أبريل، وذلك أثناء احتفالاتهم بأعياد رأس السنة التي كانت تستغرق 12 يوماً تبدأ في الأول من نيسان/ أبريل. وكانت احتفالات هذا اليوم تتمثل في دراما محزنة لموت الإله مردوك وصعوده إلى السماء، فالإله يجرح ويموت، ويبحث الناس عنه في كل مكان مولولين وناحبين.
يبدو أن هذا التقليد انتشر إلى الحياة الإسرائيلية إبان السبي البابلي. ففي الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر حزقيال، الإصحاح 8، الآية 14: "على مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال وإذ نسوة جالسات يبكين على تموز". وفي المزمور 137 من سفر المزامير نقرأ الآيات 1-6: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذين سَبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون، كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة، إن نسيتك يا أورشليم، تنساني يميني، ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي".
ووصل تموز إلى مصر الفرعونية وصار اسمه أوزيريس، وإلى اليونانية وتسمى بأدونيس أخذاً من الفينيقيين الذين سمّوه أدون أو أدوناي، أي السيد. وكانت النساء في لبنان "يبكين في كل عام موت أدونيس ويرخين شعورهن. ولكي يتذكرن موته كن يزرعن على الأحواض في السطوح بقلاً وشعيراً وشمراً ويحرقن البخور فوق المذابح". وكانوا في لبنان "يدفنون في الهياكل تماثيل تشبه أدونيس وتقوم من القبر في اليوم الخامس لدفنها ويعيدون قيامها"... وتلك تفصيلات تذكر بالمسيح وقيامته. وقد ذكر حبيب ثابت رواية عن القديس جراسيموس الأردني (ت 475 م) "أنه كان في بيت لحم غابٌ مقدس على اسم أدونيس، وكان المصلون يقيمون المناحات عليه يوم ذكرى موته في المغارة التي ولد فيها السيد المسيح". وذكر آدم متز "أنه سرى كثير مما يقال لإثارة العواطف في يوم جمعة الآلام عند المسيحيين إلى يوم عاشوراء". ونقل متز عن ابن بابويه القمي نصاً ورد في كتابه هو محاورة بين كُمَيل بن زياد وامرأة يقال لها جبلة المكية، يقول لها كُمَيل: إذا نظرتِ السماء حمراء، كأنها دم عبيط، ورأيتِ الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة، فاعلمي أن سيد الشهداء قد قتل". ونص القمي ورد نظيره في عدة كتب منها "سير أعلام النبلاء" للذهبي (لفظاً ومعنى). ونقل الخطيب البغدادي وابن عساكر وسبط ابن الجوزي والسيوطي أخباراً من هذه عن ابن سيرين وغيره. ولكن آدم متز لم يذكر النص المسيحي الذي يعتقد أن نص القمي مأخوذ منه.


الحزن الشيعي ومحطاته
يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن مظاهر الحزن والعزاء الحسيني هي تقليد عربي قديم يتمثل في إلقاء الشعراء للشعر في تأبين الميت، والحداء والبكاء، وإقامة مجالس الحزن والعزاء في البوادي والأرياف لمدة ثلاثة أو سبعة أيام واستعادة ذكرى الوفاة في يوم الأربعين، وهي تواريخ تشي بالأصول القديمة السابقة على الإسلام.
وبحسب شمس الدين فإن كربلاء شهدت أول مأتم عزاء للحسين ورفاقه حيث كان مأتماً فاجعاً مهيباً نظراً للتمثيل بجثث الشهداء، وفيهم أطفال. والمأتم الثاني كان في المدينة حين بلغ بني هاشم خبر المجزرة في كربلاء. واشتد المأتم حين وصل الركب الحزين إلى المدينة قادماً من دمشق. فكانت المجالس تعقد في البيوت، وكانت مآتم الرجال تشمل عبارات العزاء وتبادل الأحاديث عن الواقعة وبعض الشعر. أما مآتم النساء فكانت أكثر حرارة وتشتمل على بيان الواقعة بعبارة عاطفية وبيان مناقب الشهداء يتخلل ذلك شعر النوح، وربما رافق ذلك لطم على الخدود والدم على الصدور ونحيب ونشر الشعور ووضع التراب على الرؤوس وخمش الوجوه على ما جرت العادات القديمة.
وبحسب الشيخ شمس الدين فإن المأتم الحسيني حافظ على طابعه العائلي العربي وسماته الأساسية على مر العصور، ولم يدخله تغيير يذكر سوى في لغة شعر النوح وفي قصة الواقعة. فخلال عهود الأئمة علي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، كان هناك توجيهات تعطي شكلاً محدداً للمأتم، وهو إحياء ذكرى عاشوراء في موعدها من كل عام (اليوم العاشر من محرم) من خلال واحدة من ممارستين مستحبتين: زيارة الحسين لمن كان منزله قريباً من القبر. والتجمع والبكاء في البيوت لمن كان بعيداً عن كربلاء. وفي عهد الإمام محمد الباقر كان المأتم الكبير يقام عند قبر الحسين. وشاعت المجالس أكثر في عهد الإمام الصادق الذي حث على إنشاء الشعر في الحسين. وتطور الشعر الحسيني في عصر الصادق وغدا له أسلوب خاص به هو النوح فلم يكن تلاوة وإلقاء للشعر فقط، بل دخلت فيه عناصر صوتية تزيد من تأثيره العاطفي والنفسي. كما تفرغ رجال ونساء لإنشاء الشعر في رثاء الحسين وتخصصوا في النوح بهذا الشعر وتخصص آخرون في ما عرف برواية القَصص، وهؤلاء كانوا أسلاف خطباء المنبر الحسيني المحترفين.
ويبدو أن جماعة التوابين أدخلوا مظاهر أخرى تتعلق بتوجيه الكره والحقد على من قتلوا الحسين ومن أمروا بذلك أو سكتوا على ذلك، وأدخلوا معها اللعن والشتم وغير ذلك. كما أنهم أدخلوا مضامين غير رثائية تعبر عن الندم والتوبة لم تكن موجودة أصلاً في مراسم العزاء التي كان يقوم بها أهل البيت في المدينة.
ويرى الشيخ شمس الدين أن قيام السلطات البويهية في بغداد والحمدانية في حلب والفاطمية في مصر ساعد على نشر الرقعة الجغرافية للمأتم الحسيني تحت حماية السلطة في معظم الأحيان. غير أن هذا التطور ساهم بإحداث تغيرات كبيرة في نوعية محتوى المأتم، تمثلت في التوسع في تفاصيل الأحداث ومسبباتها منذ حادثة السقيفة وخلافة الرسول وحتى مصرع الحسين. وغدا الشعر الرثائي يحمل نزعة كلامية تاريخية بحسب وصف شمس الدين، "إذ يستخدم وقائع التاريخ بعقلية المتكلمين ليعطي تفسيراً لموضوعه الحسيني". وتحول المأتم من حوار نثري شعري إلى قصة تروى وقصيدة تنشد، فإلى نص مكتوب (هو المقتل)، ثم انتهى في زمن البويهيين إلى مزيج من النثر والشعر يحكي قصة المأساة بروح تاريخية فضائلية. ومع الوقت كان العديد من الأئمة وعشرات العلويين الثائرين قتلوا على يد بني أمية وبني العباس، فكانت الأحزان عليهم تنضاف إلى الحزن الكبير على الحسين، ومعها تنضاف الأحداث والملابسات والمآسي التي حفلت بها حياة هؤلاء الأئمة المتأخرين والعلويين الثائرين.
وشهد هذا الدور في نهايته نمو المأتم العلوي بوجه عام، ودخلت مصائب أهل البيت في مضمون المأتم الحسيني وانتشرت المؤلفات تروي سيرة حياة وموت كل إمام وكل علوي، ومنها كتب مقاتل الطالبيين (أبو الفرج الأصفهاني) والإرشاد للشيخ المفيد. ومنها قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة التي أنشدها للإمام علي الرضا، وذكر فيها علياً ومظلوميته، ثم الحزن على جعفر الطيار وابنه عبدالله وحمزة عم الرسول فالإمام علي والحسين، ففاطمة الزهراء... إلخ. وبحسب شمس الدين، فإن البويهيين هم من أدخل اللطم على المأتم الحسيني، ثم تبعهم الصفويون.


الطقوس الفارسية الجديدة
التجديد الأخطر في عواقبه هو إدخال البويهيين رسمياً إلى بغداد الاحتفالات الشعبية الكبرى. وبحسب ما يذكر ابن الأثير في تاريخه (الجزء الثامن - ص 181) فقد شهد عام 352 هـ/965 م احتفالاً جماهيرياً كبيراً يوم العاشر من محرم حيث أمر معز الدولة بإغلاق الحوانيت في بغداد وإقامة مجالس تعزية عامة في سرادق موشحة بقطع قماش ضخمة ونزول النساء إلى الشوارع مشحرات الوجوه نادبات ضاربات للخدود. أدى ذلك إلى استثارة موجة مضادة وعلى مدى سنتين 966 - 967 تمثلت بمظاهرات سُنية كبيرة واشتباكات طائفية متنقلة في بغداد. ثم انقطعت المظاهر بعد سقوط البويهيين ومجيء السلاجقة باستثناء ما شهدته بغداد عام 1009 من مواكب طوافة وقرع طبول يوم عاشوراء. ولم نعد نجد أي ذكر لهذه المظاهر حتى كان زمن الدولة الصفوية في إيران.
في حديثه عن التأثير المريع الذي تركته الدولة الصفوية على التشيع بعامة وعلى تراث المأتم الحسيني تحديداً، استخدم الشهيد الدكتور علي شريعتي عبارة (التشيع الصفوي)، ولم يكن يقصد بها الإيرانيين أو الفرس، بل تأثير الدولة الصفوية (1501 - 1736 م) في زمن سطوتها وسلطتها منذ استلام الشاه إسماعيل حيدر الصفوي (1478 م- 1524 م) الحكم عام 907 هـ 1501 م، وهو أحدث نقلة فى التشيع حين حولّه من عقائد وفقه وثقافة إلى فولكلور وتقاليد وأعراف وممارسات وثنية حرفته عن (التشيع العلوي) على حد تعبير علي شريعتي.
يذكر شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" تركيز أجهزة الدعاية الصفوية على نقاط الإثارة والاختلاف والفصل المذهبي والاجتماعي والثقافي بين السُنة والشيعة. ويقول إن الحركة الصفوية حرصت على تعطيل أو تبديل الكثير من الشعائر والسنن والطقوس الدينية وإهمال العديد من المظاهر الإسلامية المشتركة بين المسلمين. ويضيف بأن مراسم اللطم والزنجيل والتطبير وحمل الأقفال ليست فقط دخيلة على المذهب ومرفوضة من وجهة نظر إسلامية، بل هي تثير الشكوك حول منشئها ومصدر الترويج لها. ويؤكد شريعتي أن هذه المراسم تجري بإرادة سياسية لا دينية. ويستعرض شريعتي تاريخ نشوء المسرح الكربلائي وتمثيل الواقعة والاستعراضات الفولكلورية المواكبة لها في اليوم العاشر، فيتتبع مصدرها إلى وسط آسيا، وإلى ممارسات القبائل التركمانية ما قبل الإسلام، وإلى بعض التأثيرات المسيحية من القرون الوسطى كما يشير إلى الدور السوسيولوجي الذي مارسته في بناء العصبية الفارسية وشد لحمتها من خلال تحويل التشيع إلى طائفة / سلطة.


أستاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم