الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية" لجولان حاجي \r\nالمرأة المناضلة باعتبارها كائناً خلاصياً للذات والمجتمع

شربل أبي منصور
"إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية" لجولان حاجي \r\nالمرأة المناضلة باعتبارها كائناً خلاصياً للذات والمجتمع
"إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية" لجولان حاجي \r\nالمرأة المناضلة باعتبارها كائناً خلاصياً للذات والمجتمع
A+ A-


غالباً ما يُسلَّط الضوء في الحروب والنزاعات المسلحة على العمل العسكري والتطورات الميدانية والعملية السياسية، فتبرز تضحيات المقاتلين وأدوار السياسيين في اتخاذ القرارات وإدارة المفاوضات، الذين في غالبيتهم يكونون من الرجال، وتُتناسى المرأة ودورها ووجودها وكينونتها، وما تبذله من تضحيات جِسام وتحمّلها مشقات وعذابات وضغوطاً على كل الصعد النفسية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية. منطلق كلامنا هو كتاب "إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية" (دار رياض الريس للكتب والنشر) أعدّه وصاغه الشاعر والمترجم جولان حاجي بالتعاون مع المنظمة النسوية السورية "استيقظت".


يضمّ الكتاب شهادات لسبع عشرة سيدة رَوين قصصهن ومعاناتهن في الحرب الدائرة في بلادهن منذ بداية الثورة السورية في منتصف آذار 2011 إلى ربيع 2013 قبل أن تتحول حرباً. وينقسم ثلاثة محاور؛ المحور الأول "أمكنة تنهض، أمكنة تتداعى"، وتدور رُحاه في بلدات ريف دمشق حيث تخبر النساء عن بدايات الثورة وتطورها ومشاركاتهن والصعوبات التي اعترضتهن.
الثاني "أمكنة تضيق"، نتعرف فيه إلى نساء من مناطق جديدة لا تقتصر على دمشق وريفها، يأتين من خلفيات اجتماعية متباينة، فمنهن العلمانيات، والمتدينات، والمحافظات والليبيراليات، والناشطات سياسياً، جمعَهُن إحساس مشترك بأن هذه هي اللحظة المنتظرة ولا بدّ من الانخراط في الثورة التي طال انتظارها. ويلقين الضوء على دهاليز السجون السورية ووسائل التعذيب والترهيب النفسي والتنكيل والقمع الوحشي.
في المحور الثالث تُدلي امرأتان هُجّرتا خارج سوريا بشهادتين مؤثرتين عن صعوبة العيش في المنفى وفراق الأهل والأصدقاء، وما عايشتاه في الداخل السوري من ملاحقات واضطهاد وخيبات. اللافت تطرّقهما إلى دور البورجوازيين في سوريا، وإخفاقات المعارضة، وحمل النساء الكرديات للسلاح.


أمكنة تنهض، أمكنة تتداعى
داريا، الزبداني، دوما، مناطق في ريف دمشق انتفضت على واقعها وشاركت في الثورة. ثلاث سيّدات من هذه البلدات يوثّقن بعيونهن بدايات الثورة في كل من هذه البلدات، فيروين بطش السلطة الحاكمة في مواجهة سلمية المتظاهرين، من ملاحقات وتعذيب وقتل.
تروي سيدة داريا أن أولى التظاهرات نظمها طلبة جامعيون جابت الشوارع في 25 آذار 2015 وخلت من النساء. في الجمعة التالية شاركت النساء في التظاهرة، واللواتي أسسنَ لاحقاً تجمع "حرائر داريا"، وقد حاوطهن الرجال حماية لهن رغم امتعاضهم من نزولهن على الأرض. هذه التظاهرة التي حمل فيها المتظاهرون الورود والشموع قابلها رجال الأمن بالهراوات والعصي والأعيرة المطاطية وأخماص البنادق. تلتها "جمعة التحدي" ثمّ "الجمعة العظيمة" التي نزل فيها أكثر من عشرة آلاف متظاهر حاملين الورود وأغصان الزيتون فوُوجهوا بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع، ليأخذ الناس برميهم بالحجارة، والحصيلة استشهاد ثلاثة شبان. على إثرها، أعلن الإضراب العام والحداد ثلاثة أيام وباتت التظاهرات أسبوعية وازدادت مكامن الأمن للنشطاء. وبعد جمعة حماة التي سقط فيها 31 قتيلاً وما تلتها من مواجهات دموية بالحجارة والرشاشات والدوشكا، وبدء صدور جريدة "عنب بلدي" (استشهد مؤسسوها في ما بعد)، اضطلعت النساء بدور مغاير وانثنَين عن النزول إلى التظاهرات، وأصبحن يزرن عوائل الشهداء ويساندنها، ويجرين دورات في الإسعاف، ويوزعن المناشير، ويخِطن اللافتات، ويطبخن لـ"الجيش الحر".
عانت داريا الأمرّين بعد حصارها وتهجير سكّانها وقصفها بالمدفعية وطائرات "الميغ"، ولا سيما نساؤها، اللواتي اختبأن في الملاجئ مع أولادهن، وهُجّرن وتركن بيوتهن، وناضلن كالرجال إن لم يكن أكثر، وكافحن ضد التمييز والتهميش وأثبتن أنهن لسن بناقصات، بل قديرات وقادرات على تكفّل أمورهن وصون أنفسهن. وكداريا عمّت الزبداني التظاهرات والمواجهات مع عناصر الأمن والاعتقالات والقمع والقتل، وشاركت النساء في هذه التظاهرات حيث اختلطن مع الرجال، ثائرات على التقاليد الاجتماعية والقيود الدينية فساهمن في الاعتصامات ورفع اللافتات والنشاطات الثوروية كملصقات صور الشهداء والأغاني، وساعدن في إصدار مجلة "أوكسيجين" الورقية التي تحولت إلكترونية.
لم يكن النقد الذاتي غائباً، إذ تقول الناشطة من الزبداني: "ليتنا لم ندخل دوامات التسلح، وإن كنا أصحاب حق. ليتنا بقينا تحت حكم الأسد ولم يُقتل عمي وأقربائي. لكن ندمي بلا طائل، ولا نفع يُرتجى من مناقشة المستحيل(...)، كانت الثورة رائعة، والأمل يملأ النفوس، إلى أن انتهت السلمية.
الثورة تغيرت ولا تزال مستمرة، لكنها لم تعد بالجمال الذي كانت عليه". حال دوما لا تختلف عن سابقتيها، إذ خرجت منها التظاهرات والاعتصامات فهاجم الشبيحة أبناءها بالهراوات الكهربائية وعصيّ بكراتٍ من حديد، وأطلق الرصاص الحي نحوهم وتعرّضت البيوت لعمليات الدهم والقصف بالراجمات والصواريخ. هنا، أيضاً، تعرّضت النساء للمضايقات نظراً إلى المجتمع المحافظ الذي يعشن فيه حيث المرأة منقبة، لا تتجاوز حدود مدينتها، وهي خادمة لأخيها.
غير أن ذلك لم يمنعها من فرض حضورها والانخراط في التظاهرات، وإسعاف الجرحى والعمل مع الأرامل والثكالى والأيتام، وتوزيع الوجبات الغذائية والمبالغ المالية. وتكشف الراوية عن وقائع بيّنت "أن الحقيقة لم تكن كما قيل لنا، فالكثيرون ممن طعنونا في الظهور إنما خرجوا من أجل السلطة والجاه".


حرستا، جسرين، التل والقابون
في هذه البلدات التي عانت كبقية المدن السورية من حصار وقصف وقمع وقتل، نكتفي بالتطرّق إلى معاناة الناشطات وتجاربهن من خلال لقطات سريعة ومعبّرة. فابنةُ حرستا، مثلاً، سمعت للمرة الاولى صوتها أثناء هتافها "الله أكبر"، فكان ذلك أروع شعور اختبرته في حياتها. وقف والدها بجانبها ضد الألسن التي طاولت طلاقها وسفورها، ودعمت الثورة بكل طاقتها فعملت على تهريب المواد الطبية وأدوات الإسعاف الأولي، وتصميم الخرائط والملصقات والشعارات للمجالس العسكرية، ومنسقة إعلامية للواء.
في جسرين لفتت الناشطة إلى ثلاثة محرّمات هي: السياسة والدين والجنس. هنا، تُمنع المرأة من إكمال علمها، وتُزوَّج في سنّ السادسة عشرة، ولا تخرج إلا ثلاث مرات: "من بطن أمها إلى بيت أبيها، ومن بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومن بيت زوجها إلى القبر". التل شهدت تظاهرات رغم أن أهلها كانوا يعتبرون من المؤيدين، وتعرضت لعشرين يوماً من الحصار انتهى بانسحاب "الجيش الحرّ".
وعثر فيها على مقبرتين جماعيتين بعد عودة أهلها إليها. حتى في ظلّ هذه الظروف، لم تُترك النساء في شأنهن إذ اقتفيت خطواتهن ولوحقن في تظاهراتهن بحجة الخوف عليهن، بحسب الناشطة الأربعينية، التي قالت إن الثورة أعادت "الحيوية إلى نساء مثلهن مضطهدات فعلاً، فالإقدام، حتى في أصغر المواقف، منحهن الإحساس بأنهن قد عشن حقاً".
الأمر عينه تصفه لنا الناشطة من القابون التي سمحت لها الثورة بالتخلص من عزلتها وانطوائيتها، فاكتسبت صداقات عدة من خارج بلدتها، حتى من الشبان كذلك، وزادت ثقتها في نفسها فصارت تناقش مواضيع حساسة، وتنتقد بصوت عالٍ.


أمكنة تضيق
في هذا المحور نستمع إلى شهادات نساء اعتُقلن خلال الثورة، يصفن معايناتهن، وما مررن به داخل السجون، وكيف انعكس ذلك على جوانب حياتهن. فها هي مجدولين حسن المحامية العلوية المنهمكة بتوثيق الانتهاكات تُساق إلى فرع الأمن العسكري في طرطوس ويُصادر جهازها المحمول، وتوضع في الحبس الانفرادي، لتعيش أسوأ أيامها منصتةً إلى عذابات المساجين وأنّاتهم وتهاويهم على الأرض بعدما عجز الجسد عن التحمل.
مجدولين التي تعرضت إلى صفعتين من أحد الحراس بعد رفضها تناول الطعام وتلاسنها معه، خرجت من السجن لتعيش رهاب العودة إليه بعدما خذلها أخوها الضابط الذي سمع نبأ اعتقالها من غير أن يحرّك ساكناً. حال هيام لم تكن أفضل، فهي بقيت في الانفرادي خمسين يوماً بالثياب عينها تغسلها وتلبسها مبللة، حيث عانت من "الديسك" والأرق والأوجاع، لتحال على قصر العدل وتودع سجن عدرا. هذه المرأة التي تبرّأت منها قريتها العلوية، أفرج عنها بعدما وكّل لها شقيقها محامياً، ساردةً تلاعب المحققين بها وتهديدها بإخبار أهلها بأن "تهمتها دعارة". هيام التي فقدت وظيفتها كمهندسة وخسرت بيتها، عادت واعتقلت وتعرّضت للتفتيش المذلّ.
ثمة مريم التي وشى بها جيرانها بعدما ظنوا أن شباناً يجرون لقاءات سياسية محظورة. سماح قُبض عليها بتهمة توزيع المناشير ولوم أهلها لها لعثور المفتشين على واقٍ ذكري في حقيبتها. آلاء تنقلت من سجن إلى آخر من دون أن تحال على المحاكمة. وصفاء التي أثناء اعتقالها انتزع حجابها، وجرّت، وركلت وصفعت.


صوتان في المنفى
الصوت الأول، لابنة ديبلوماسي غادرت وعائلتها سوريا قسراً. تتطرّق إلى الطبقة البورجوازية التي تواطأت مع النظام خوفاً على مصالحها، ومكّنته من إحكام قبضته على المجتمع الدمشقي بكل أطيافه وطبقاته.
هذه العلاقة بدأت أسسها بالتخلخل مع التظاهرة الأولى في دمشق 2011، والجدل الذي خلّفته في كل عائلة. وَعَت البورجوازية، إذاً، واجباتها الوطنية، وانخرط رجال الأعمال في الثورة بعدما أدركوا أن الانعزال عن الحراك الشعبي لم يعد ممكناً.
كذلك يوجز نشوء المجلس الوطني الأول في اسطنبول، ووجود امرأة بين أعضائه في المجلس التنفيذي، والنظرة الدونية إليها وحساسية تقبّلها في مركز القرار. ناهيك بالخلافات بين أعضائه، والانقسامات، وعدم وحدة الرؤية، مما كبح من فاعلية عمله وأفقده صدقيته وثقة الثوار.
الصوت الثاني، لامرأة تعيش في باريس. يعرض الظلامات اللاحقة بالأكراد، والتمييز والخذلان والخيبات التي ألمّت بهم طوال تاريخهم، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية كالتوظيف ومعاملتهم كمواطنين درجة ثانية. هذا الأمر كان تأثيره مضاعفاً على المرأة الكردية التي كانت تعامل ككائن ضعيف، خادمةً لأخواتها الذكور، مع ملازمة المنزل وانتظار الزوج المخلّص. غير أن هؤلاء النسوة انتفضن على هذا الواقع بالعلم والتفوق الدراسي، حتى إنهن حملن السلاح وانضممن إلى قوات الحماية الكردية.
يوثّق هذا الكتاب مجريات الثورة السورية بعيون نساء من الداخل انخرطن في حوادثها، لتتمخّض عنها ثورة أخرى هي ثورة نساء يحيَين في الظلّ، صامتات، مهمّشات، خرجن للمرّة الأولى إلى النور، فتلمّسن أشعّة حرية دغدغت وجوههن، وتنفّسن هواء وجودهن، فأحسسن بقيمة حياتهن.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم