الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

البندقية ٧٣ - "على طريق الحليب": إنّه كوستوريتسا ولا أحد آخر!

المصدر: "النهار"
البندقية ٧٣ - "على طريق الحليب": إنّه كوستوريتسا ولا أحد آخر!
البندقية ٧٣ - "على طريق الحليب": إنّه كوستوريتسا ولا أحد آخر!
A+ A-

أحدٌ لا يصوّر الحيوانات كما يفعل أمير كوستوريتسا. مذ غاب المعلم الصربي عن السينما الروائية لتسع سنوات خلت، ونحن لم نشاهد فيلماً يحتفي بالحيوان بهذا القدر. فالدجاج والحمير والخراف والزواحف والدببة، جزء لا يتجزأ من قبيلته السينمائية التي يعيد إحياءها هنا في جديده "على طريق الحليب" (مسابقة)، المقتبس من ثلاث قصص حقيقية والذي استغرق إنجازه نحو أربع سنوات. أضف أنّ أحداً لا يوظّف الحيوان بهذا الشكل الظريف كما يفعل هو. باختصار، لن تتسنّى يومياً مشاهدة فيلم يتحوّل فيه الخروف انتحارياً بحزام ناسف أو أفعى تتذوّق الحليب. مخرج "أندرغرواند" صاحب مخيّلة خصبة تحمله إلى البعيد جداً. العلّة الوحيدة هي أنّ الإبداع عنده انفجر في مرحلة باكرة جداً من حياته (كان في الحادية والثلاثين عندما فاز بـ"السعفة" عن "أبي في رحلة عمل" عام ١٩٨٥)، فلا تتذمّروا إن بدا ما ينجزه الآن أقل إثارة للإبهار مما مضى.


أتفرّج على هذا كلّه من مقعدي في الصالة الكبيرة في "موسترا" #البندقية (٣١ آب - ١٠ أيلول)، حيث سبق أن نال كوستوريتسا جائزتين منذ شارك فيها قبل ٣٥ عاماً. ثمة ما شاخ في هذا الديكور، وأشياء أصابها العتق، بدءاً من نظرتنا إلى هذا النوع الباروكي من السينما، وصولاً إلى كوستوريتسا نفسه الذي يأتي هنا بفيلم ديناميكي يحمل عوارض بعض الإرهاق، خصوصاً في الجزء الأول. هذه مناسبة أيضاً لنلحظ كم تحوّلت النكتة المجانية والطرافة السخية التي كانت تكفي في ذاتها إلى عنصر هادف درامياً، وصولاً إلى حال الأسى التي لا رجوع عنها، وهي ستضرب ختام الفيلم.
أياً يكن، يقدّم كوستوريتسا فيلماً يشبهه ويشبه عوالمه التي اعتدنا عليها؛ نوع من الواقعية السحرية في أبهى تجلياتها. إنه كالسمكة، يحتاج إلى البقاء في المياه. نحن الذين عشقنا أفلامه حتى "قطّ أسود، قطّ أبيض" (١٩٩٨)، وإلى حدّ ما "الحياة معجزة" (٢٠٠٤)، نجد في "على طريق الحليب"، كلّ مكونات سينما كوستوريتسا وتفاصيلها، من الموسيقى إلى الشخصيات الثانوية فالـ"بورلسك"، وتلك التيمات الكونية المنبثقة من المحلية. وثمة أيضاً الشريط الصوتي الغني جداً: صوت المروحيات والطيران والقنابل والحيوانات. ترافق هذا كله موسيقى تصويرية صاخبة من تأليف ستريبور كوستوريتسا، ابن المخرج الذي يخلف غوران بريغوفيتش بعد انتهاء العمل بينهما بسبب إشكال.
هذه المرة الأولى التي يمثّل فيها كوستوريتسا في فيلم من إخراجه، ويمكن القول أنه يتدبّر أمره جيداً قبالة الكاميرا وخلفها. سبق أن مثّل في أفلام لسينمائيين آخرين، ولم يسبق له الوقوف أمام كاميراه باستثناء فيلم قصير أنجزه قبل عامين ضمن عمل جماعي عن الأديان بعنوان "كلمات مع الله" بناءً على فكرة لغييرمو أرياغا. الدور الذي يضطلع به هنا بسيط جداً: رجل يدعى كوستا يوفر الحليب للمقاتلين على الجبهة من خلال نقله إليهم بالمستوعبات. نراه يتنقّل على ظهر حماره من قريته إلى أرض المعركة، متحدياً القنابل والرصاص. حياة الريف العجائبية ينقلها كوستوريتسا بسخرية مُرّة، ليتكوّن تدريجاً أمامنا عالم متكامل يتشكّل من هواجسه وعقده وزلاته التصويرية.
الحوادث تجري خلال حرب البلقان، لا تفاصيل حربية، فهي ليست سوى خلفية تُمسك الأحداث وذريعة ليُمرّر كوستوريتسا بعض مواقفه السياسية التي لا وزن لها ولا تستحق التوقّف عندها من فرط هزالتها وقلة الأهمية التي يمنحها. الفيلم ليس عن الحرب بل عمّا بعدها، "فمعظم المآسي تبدأ عندما تنتهي الحرب"، قال كوستوريتسا في المؤتمر الصحافي. روعة الطبيعة والمساحات الخضراء لا تحجب، يا للأسف، النار والحديد. في هذا الديكور، تتبلور علاقة كيمياء بورلسكية على طريقة كوستوريتسا بين صديقنا الذي ينقل الحليب ولاجئة صربية إيطالية تهرب من ماضيها ومن جنرال بريطاني يطاردها. هذه اللاجئة تضطلع بدورها مونيكا بيللوتشي، ويعود الفضل إلى المخرج في بعض "الشرشحة" المحببة التي يُلحقها بالممثلة الايطالية عبر جعلها تركض خلفه بمستوعب حليب أو تنام بين قطيع من الخراف أو تخيط له أذنه المصابة التي طارت من مكانها. في المقابل، فإنه يجعلها تغني وتبكي؛ فعلان لم يسبق لها تأديتهما في حياتها المهنية.
نحن إزاء صورة مختلفة لبيللوتشي، فهي المرأة رمز الأمومة والحنان، وليست مجرد مصدر رغبة عابرة. وهي أحياناً امرأة لعوب خارجة لتوّها من سينما الأربعينات. العنف والسخط يجاوران الغنائية والرقة كما العادة، بيد أنّ النصف الثاني من الفيلم هو الذي يحلّق عالياً في فضاء السينما. المغامرة التي ستحملنا إلى أعماق البريّة، في رحلة مدهشة عبر الأنهر والحقول والشلالات، تؤمّن قسطاً كبيراً من المردود المعنوي الذي ينتظره المُشاهد من فيلم لكوستوريتسا، وهي تتيح له برهان قدرته التي لم تهمد في صناعة لقطات عصيّة على التقليد. هذا الجزء من الفيلم يأتي بعد انتهاء الحرب ومطاردة عصابة الجنرال - الذي كان على علاقة باللاجئة - بغية قتلها. تتوالى المواقف والحلول السوريالية على طريقة كوستوريتسا، وصولاً إلى النهاية التي تقحم الفيلم في مزاج مختلف تماماً، فيه شيء من السينما التراجيكوميديا على الطريقة الإيطالية. بعد ٣٥ سنة على ولادتها، لا تزال سينما كوستوريتسا تصوّر الحروب والصراعات لتشهد على عبثيتها، وتوّفر حلولاً غالباً ما تكون أصعب من المشكلة نفسها. يعتقد كوستوريتسا بأنّ الفراشة التي تحوم فوق رؤوس العسكر أقوى منهم، ولهذا السبب نحبه!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم