الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الولع بالشرق ورسوم الكتب يجنّنان الفنانة الروسية كسينيا لافروفا

محمد شرف
الولع بالشرق ورسوم الكتب يجنّنان الفنانة الروسية كسينيا لافروفا
الولع بالشرق ورسوم الكتب يجنّنان الفنانة الروسية كسينيا لافروفا
A+ A-

إذا كان ما يميّز المدرسة العليا للفنون التطبيقية التي تابعنا فيها دراستنا في مدينة سان بطرسبورغ في روسيا، حين كان إسم المدينة لينينغراد، فهو تعدد أنواع الفنون والأقسام من جهة، وسهولة الاختلاط بين الطلاّب، معقودَين على إمكان الاطلاع على ما يحدث في الأقسام الأخرى، وحتى ممارسة نشاطات في هذه الأقسام من دون أن يكون الراغب منتسباً بالضرورة الى الاختصاص المرغوب به. نتج من هذا الأمر أن طلبة كثيرين مارسوا بعد تخرجهم نشاطات فنية لا تتعلّق حكماً باختصاصهم الأساسي، بل بما بيّنته لهم الأيام من ميل كان مضمراّ خلال فترة الدراسة، ولو أن الفن كان الجامع المشترك بين ما درسه الطالب، وما يميل إليه كفرع إضافي.


كنا نرى، حينها، كسينيا لافروفا في ممرات الأكاديمية، هي التي تابعت دراستها في قسم التصميم الفني للقماش، المرتبط بالتصميم الداخلي، ولكن لم تجمعنا معها معرفة وثيقة. علمنا من مطالعة سيرتها الذاتية أنها لم تكتف بما درسته في الأكاديمية، شأنها شأن من يرى أن رغباته الفنيّة وطموحاته تتعدى حدود مواد الاختصاص التي درسها، كما ذكرنا. وبما أنها كانت تضمر ميلاّ الى الشرق وثقافاته المختلفة، انتسبت الى معهد خاص في مدينة سان بطرسبورغ يُعنى بالدراسات الشرقية، حيث حصلت على شهادة في الصينولوجيا، مع ما تطلبه ذلك من اجادة اللغة الصينية. ما من شك في أن هذه الدراسة تركت آثاراً عميقة في ما أنتجته لاحقاً، كما هي حال من يقع في هوى ثقافة من الثقافات، ويصبح من الصعب عليه التملّص مما تمليه هذه الثقافة من انطباعات ومفاعيل.
خلال الفترة الزمنية التي أعقبت تخرجها من الأكاديمية، وفي شكل موازٍ لما كانت تقوم به من دراسات اضافية، نفذت لافروفا مجموعة كبيرة من الرسوم لكتب الأطفال، وحتى للكتب في شكل عام، عبر تعاملها، أو تعاقدها مع دور للنشر في مدينة سان بطرسبورغ. من خلال معاينة تلك الرسوم يمكن ملاحظة الاهتمام الذي توليه الفنانة للتاريخ، وللصور المتأتية منه خلال حقباته المختلفة في بلدان عدة. لكن اهتمامها تركّز حول الشرق، ونعني هنا الشرق الأقصى أكثر من سواه، ما يُعتبر منطقياً نظراً الى الدراسات الاضافية المذكورة. على أن كلامنا هذا لا يعني أنها أهملت مناطق أخرى من هذا الشرق الممتد على آلاف الكيلومترات، من البحر الذي نعيش على ضفافه من جهة الغرب، الى البلاد التي تحاذي المحيط الهادئ العظيم من الجهة الأخرى. غني عن القول كم هو عدد الحضارات التي ولدت في هذا الجزء من العالم، وعدد الملوك والأمراء وحتى الأميرات الذين تربّعوا على العروش، أو كانوا على صلة بالطبقة الحاكمة، ناهيك بالفلاسفة والكتاب والشعراء، ممن بقيت صورهم الحقيقية أو الافتراضية في الأذهان، ونسج لهم الفنانون، ومن ضمنهم كسينيا لافروفا، وجوهاً وملابس وقامات.


أليس في بلاد العجائب
قلنا ان كسينيا لافروفا كانت نفّذت رسوماً للكتب، ولعلّ أهمّ ما قامت به في هذا المجال هي الرسوم المخصصة لكتاب "أليس في بلاد العجائب" لاحدى النسخ الروسية منه، التي تُعتبر، في نظرنا، من أفضل النسخ من حيث الاخراج والطباعة والرسوم المرافقة للحوادث. كانت رواية شارل لوتفدج دوغسون صدرت في العام 1865، بعدما اتخذ مؤلفها اسماً مستعاراً هو لويس كارول. قد لا يعلم الكثيرون أن أول من وضع رسوماً للرواية هو كارول نفسه، قبل أن يوكل الأمر الى الرسام جون تينيل. تقول لافروفا: "ان مؤلف لويس كارول هو من أكثر الكتب المولّدة للمتاهات. لقد كبّلت القصة يديَّ كرسام - ايلوستراتور في البداية، اذ ان بناء المتن في القصص الكلاسيكية يكون محكماً، ما يضع الرسام أمام مهمة دقيقة تتطلّب انتباهاً خاصاً. فالحوادث تتتابع بسرعة، وبطلة القصة تغيّر مظهرها على الدوام، لكن صعوبة تتبع مجريات الفانتازيا قد تشكّل أيضاً دافعاً، في مكان ما، على التصرّف بحرية حيال مظهر أليس وباقي شخصيات القصة ".
من خلال معاينتنا لما صنعته لافروفا من رسوم (عددها يتجاوز المئة رسم) يمكن ملاحظة مظاهر الاحتراف في كيفية تعاملها مع الموضوع، واذا كان العامل المساعد في أداء المهمة يتمثّل في الخلفية الفنية للافروفا وفي مهاراتها التقنية، لكونها تجيد الرسم ومتخصصة في دراسة النواحي الفنية للقماش، لكنها عادت، ومن أجل مزيد من الصدقية، الى البحث في تاريخ الأزياء لانتقاء ما يمكن أن يتناسب مع المرحلة التاريخية المتعلقة بالقصة. هذه المهمة تُعتبر من الضروريات حين ينبغي أن تكون رسوم الكتب عاكسة ليس فقط للقصة في حد ذاتها، بل أيضاً للمناخ المتعدد الجوانب الذي تدور فيه الحوادث. نذكر تماماً، حين كنا صغاراً، واذ نمسك بأيدينا كتباً من هذا النوع، تدور موضوعاتها حول قصص تلعب فيها الفانتازيا دوراً محورياً، فان أول ما كنا نفعله هو فلفشة الكتاب باحثين عن الرسوم المرافقة للنص، التي اعتبرنا جمالها معياراً لجمالية الكتاب نفسه، ودافعاً لمطالعته والتمتع بالسيرة التي من شأنها أن تنقلنا الى عالم الأحلام والخيال.


في النواحي الفنية والتقنيّة
لا تمثل الرسوم المخصصة للكتب الاّ جزءاً مما تحسنه كسينيا لافروفا، وربما الجزء الأقل أهمية من حيث موقعه في نتاجها ككل، على أن لا يُفهم من كلامنا هذا أن عملها في هذا المجال لا يكتسب الصفات الفنية اللازمة، وأنه حظي باعجاب كل من رآه. أكثر من ذلك، يمكن بسهولة ملاحظة وحدة الأسلوب ومتانته، اضافة الى لمستها الشخصية، أكان في رسوم الكتب أم الأنواع الأخرى. وقد يكون أحد المفاصل الأساسية في هذا الأسلوب، من ناحية التأليف، هو التناغم الدقيق ما بين المساحات المرسومة، مع ما تتضمنه من أشكال وأحجام، والمساحات الأخرى المتروكة للفراغ.
هذه المقاربة، اذا ما أضفنا اليها النزعة الى الزخرفة، تعتبر من الخصائص المميزة للفن الشرقي ككل، وللشرق الأقصى خصوصاً، خلال الفترة التاريخية ما بين القرنين التاسع والثاني عشر، وهي الفترة التي وقع اهتمام لافروفا عليها، بعدما انفتح أمام ناظرها عالم اليابان المدهش مع ما يتضمّنه من موتيفات فنية تشكيلية ذات جمالية واضحة.
الى ذلك، لا بد من ملاحظة الاهتمام الذي توليه الفنانة بالخط. معرفة التحكم بالخط تتحدر، عملياً، من التربية الفنية الأكاديمية التي تلقتها لافروفا، والذي يُعتبر الرسم أحد أركانها الأساسية. الخط حاضر في كل ما تفعله الفنانة تقريباً، وذلك ضمن نهج غرافيكي تُصاغ على أساسه موضوعات المتن، ويكون فيه الخط عاملاً مقرراً، أكان من حيث الفصل بين العناصر وتبيان الأساسي من الثانوي، أم لجهة تقديم الزخرفة ضمن قالب هندسي أو غير هندسي. على رغم ذلك، لا تتخذ أعمالها وجهاً واقعياً كلاسيكياً، كما عوّدنا النهج الأكاديمي الروسي أو السوفياتي، بقدر ما تشي بحرية في التعبير تسمح لها بالتلاعب بالملامح الانسانية لجهة تضخيمها أو اختزالها، ومنحها ملامح الجدّية تارة أو صفات الكاريكاتور تارة أخرى، بما يتناسب مع مجريات القصة. في السنوات الأخيرة، وفي ما يتعلّق بطبيعة الموتيفات، يبدو أن اهتمام لافروفا توجّه أيضاً صوب افريقيا وأميركا الوسطى، كأنها شاءت اختبار فنها وأسلوبها حيال ثقافات كثيرة الاختلاف. أما اذا تبادر الى ذهننا سؤال بديهي يتمحور حول موقع الثقافة الروسية الأم في أعمال كسينيا لافروفا، فلن يكون الجواب صعباً، اذ نفذت أعمالا كثيرة ذات صلة مباشرة بالثقافة المحلية، علاوة على أن معظم ما عالجته كموضوعات أخرى كان يمر عبر روحية روسية. وقد ساهم كل ما صنعته، مما ورد ذكره أو لم يسمح لنا المجال بتعداده والكلام عليه، في أن تصبح معروفة في الوسط الفني كاحدى فنانات مدينة سان بطرسبورغ المرموقات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم