الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

البندقية ٧٣ - “فرانتز” لفرنسوا أوزون: أسرار وأكاذيب!

المصدر: "النهار"
البندقية ٧٣ - “فرانتز” لفرنسوا أوزون: أسرار وأكاذيب!
البندقية ٧٣ - “فرانتز” لفرنسوا أوزون: أسرار وأكاذيب!
A+ A-

فرنسوا أوزون يُخرج أفلاماً غير متوقعة، مليئة بالحياة والوجوه المعبّرة والشغف والسينيكية. ثمة دائماً ما يمكن أن نحبه في أفلامه. التمثيل أو الإخراج أو البنية السردية أو ببساطة النحو الجذاب الذي يحملنا بواسطته إلى حقب وأماكن مختلفة. فما بالك إذا اجتمعت هذه العناصر كلها في فيلم واحد؟ هذه حال جديده، "فرانتز"، المتسابق على جائزة "الأسد الذهب" في #مهرجان_البندقية الذي افتُتح الأربعاء الفائت. المخرج الفرنسي النشيط جداً، الذي لا يتوقف عن العمل منذ العام ١٩٨٨، أبدع في أحدث ميلودراما تشويقية له، هو المجتهد في هذا المجال لأنه يجيد التلاعب بمصائر الأفراد، من دون الوقوع في فخاخ التنميط، بل يشبّع عمله دائماً باللؤم والرؤية العميقة للطبيعة البشرية.


"فرانتز" مستوحى من فيلم لارنست لوبيتش أنجزه المخرج الألماني الكبير العام ١٩٣٢، وهو بدوره كان اقتبسه من مسرحية لموريس روستان. إنها عودة إلى زمن الحرب العالمية الأولى التي أحدثت ما أحدثته من خراب في أوروبا، ولكن التركيز هنا هو على المعارك المُندلعة بين الجارتين ألمانيا وفرنسا. آلاف الجنود قضوا على الجبهة من الجانبين. نبدأ من ألمانيا الذليلة بعد خسارة الحرب، الناقمة على فرنسا والفرنسيين، لننتقل بعدها إلى الدولة العدوة لها، التي بدورها تتباهى بنيلها من خصومها، وهي تغني المارسييز.



 


آنّا (بولا بير) كانت خطيبة فرانتز، الجندي الذي سقط خلال معركة مع الفرنسيين. في قرية ألمانية صغيرة حيث تعيش مع أهل خطيبها، تزور قبره بشكل دائم. ولكن، سرعان ما تكتشف أنّها ليست الوحيدة التي تزوره: ثمة شاب فرنسي يدعى ادريان (بيار نيني) يضع اكليلاً على ضريح الشهيد. من هو هذا الشاب؟ هذا ما سنعرفه في النصف الأول من الفيلم (نحو ساعة). يدخل ادريان بيت ذوي فرانتز في اعتباره صديق ابنهم، حاملاً إليهم المشاعر الصادقة، وآتياً معه ببعض التفاصيل كحبّه للوحة لمانيه. في المقابل، يرى والدا فرانتز فيه امتداداً لابنهما وما بقى من ذكراه، فيفتحان له قلبهما ومنزلهما. كذلك الحال بالنسبة لآنّا التي تُسلّم أمرها لأدريان، فترافقه إلى حفلة راقصة، متجاهلة نظرات الناس الحاقدة الذين لا يعجبهم هذا "الخرق" للعدو في بيئتهم غداة انتهاء الحرب. هي أيضاً تجد فيه "شيئاً" من الفقيد.


الجزء الأول من الفيلم يلتقطه أوزون بغموض كبير غارق في السواد البديع. يلامس التعبيرية الألمانية، مستلهماً من لوحات حقبة الرومنطيقيين الألمان، مستعيناً باللونين الأسود والأبيض (٣٥ ملم)، مع لحظات سكون أو هروب من الواقع - حلِّلها كما تريد - تتلوّن فيها الصورة كأنها انتعاش للذاكرة. شيئاً فشيئاً، تظهر الهوية الحقيقية لأدريان؛ فهو قد لا يكون الشخص الذي يدعيه؟ لمَ جاء إلى هنا، ما الصلة الحقيقية التي تربطه بفرانتز، وعمَ يبحث تحديداً؟ هذا ما سنكتشفه تباعاً.


يستند الفيلم إلى مسألتين أساسيتين: الكذب والغفران. فالإثنان ضروريان للنهوض بالمجتمع المتصالح مع نفسه، خصوصاً ذلك الذي شهد حرباً حديثاً، وهي فكرة يشرّعها حتى الراهب الذي تبوح له آنّا بذنوبها. سرّ كبير سيربط ادريان بآنّا، وصولاً إلى علاقة الاعجاب وربما الحبّ بينهما التي ستتبدّد حتى قبل أن تنشأ، وفي هذه النقطة تتجلّى سينيكية أوزون الذي، من بين كلّ الحلول الدرامية، يختار الأكثر لؤماً وقسوة: أن تقع بطلته في حبّ قاتل خطيبها. إلا أنّ ذلك لن يكون أكثر الأمور لؤماً في فيلم تسوده القسوة، فثمة المزيد من الكلبية المدمّرة. خصوصاً مع معرفتنا بأنّ الجنديَيْن اللذين وجدا نفسيهما على أرض المعركة، كانا مسالمَيْن، يقرآن الشعر ويعزفان الموسيقى، وفجأة صارا شقيقين عدوَيْن. من خلال العمل على استخراج التشابه بين فرانتز وادريان، يخلق أوزون لعبة مرايا ليبحث في انعكاساتها على ما يقرّب العدوّين وليس على ما يفرقهما. انه حق التشابه.


الكاميرا التي يحرّكها أوزون تعرف كيف تلتقط لحظات التشويق والانكسار والحميمية ودهشة اختراق أرض العدو (باريس)، حيناً بالكلوز آبّ وحيناً بحركات الكاميرا التي تتماهى مع وجهة نظر آنّا، الضحية والشاهدة البريئة (الساذجة تقريباً) على التمترّس الأوروبي. الوطنية البدائية هي أيضاً سيف مصلت على الفيلم، ذلك أنها تشكّل الخطاب الرسمي الذي يعتمد عليه الخاسرون والمنتصرون.


ثمة عناية مهمّة بالصورة والموسيقى المرافقة، فنحن في قلب السينما الكبيرة، المصنوعة على الطريقة القديمة قليلاً، حيث البطولة المطلقة تعود إلى شخصية نسائية، كما جرت العادة عند أوزون. لا يتراجع مخرجنا أمام أيٍّ من الخيارات السيناريستية، وبعضها كان يمكنه الإطاحة بالفيلم وجعله ساذجاً، لكنّ ذلك لم يحصل. أهم تلك الخيارات، الإمعان في وصف الجانبين، الألماني والفرنسي، واعتماد القدر نفسه من التمسّك بالوطن في تصوير كلّ منهما، وهو تمسّك لا ينتج إلا مزيداً من القهر والتصادم والصراع. كل طرف يحمّل الآخر مسؤولية مقتل أبنائه، وستكون كلمة والد فرانتز أمام شلّة أصحابه المستائين من سلوكه المنفتح، لحظة صحوة حقيقية داعمة لفكرة الفيلم الأساسية: الأباء هم الذين يرسلون أولادهم إلى الحرب وليس الأعداء خلف خط النار. بالكثير من السينما والقليل من الأخلاقيات، يمنح أوزون درساً بليغاً في الإنسانية، حيث شعور الانتماء إلى وطن يُستبدَل تدريجاً بشعور الانتماء الى إلانسان. على الكلّ التخلي عن اقتناعاته الجامدة لبلوغ أعلى مرتبة في سلّم الحرية.


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم