الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مسرح الساعة العاشرة ودودول سيبقيان من تراث لبنان

المحامي عبد الحميد الأحدب
A+ A-


مسرح الساعة العاشرة توقف حين رحل لبنان الجميل! ولم يَقْوَعبدالله نبوت الذي كان اسمه المسرحي دودول على طول الفراق، فتركنا منذ أيام لأنّه لم يعد يطيق العيش في لبنان هذا!
كان عبدالله نبوت - دودول من أصدقائي الطيبين الذين أخذوا قلبي وضوء عيني، حين لفظ أنفاسه الأخيرة حبست في عيوني كل دموع لبنان، لبنان ما قبل 1975، لبناننا، فاسمحوا لي في هذه الكلمات أن امطر قليلاً.
دودول الذي ابتكر في مسرح الساعة العاشرة المسرح النقدي الساخر الرفيع الحضاري في لبنان، كان يعيش في المسرح وكان المسرح يعيش فيه! يخرج من مسرح الساعة العاشرة ليستقبل الناس ويلاطفهم ويُسْمِعهم آخر قرصاته السياسية الذكية، ثم يعود آخر الليل لينام في جفون المسرح الذي يعيش فيه!
كان دودول يشبه لبنان كثيراً، لذلك عاشا معاً، ولما شعر بأنّ لبنانه لم ينته فحسب، بل لم يعد له أمل، وأنّ النفايات غلبت عليه وعلى سياسييه، قرّر الرحيل! وكانت رحلته في الأيام الأخيرة كلها عذاب وآلام، ولم يكن دودول يقبل أن يموت لبنان ويبقى هو حياً، ولا كان معقولاً أن يتوقف قلب دودول عن النبض لو لم يتوقف قلب لبنان عن دق أجراس الفرح! كان مسرح الساعة العاشرة الساخر الذي صنعه دودول ابن أصل، ولا فرق بين مسرح ومسرح إلاّ بقدرته على التأثير في الناس والتعبير بسخرية غير جارحة عن الظلم اللاحق بهم.
مسرح الساعة العاشرة الذي نبت من قلب دودول وأصالته المسرحية الساخرة كان آخر خيط ضاحك يربط الإنسان اللبناني بالإنسان اللبناني، وآخر ساعي بريد يحمل مكاتيب "القرص" الضاحك الى القبائل اللبنانية المتناحرة التي لم تعد تكتب رسائل وطنية ولا عادت تستلمها.
كان مسرح الساعة العاشرة الساخر هجومياً بركانياً وَضَعَته في الثلاجة حرب تحرير فلسطين من جونيه وعيون السيمان، ثم حرب تحرير فلسطين من اللاذقية وحلب! حين توقف مسرحه الساخر بعد الحرب الأهلية اللبنانية، سألته: لماذا لا تستأنف عرض المسرح؟ فكان يجيبني كيف يمكن أن نطلب من المسرح الساخر أن يكون جميلاً في مهرجان القبح الذي يعرض هذه الأيام في لبنان.
كان مسرح الساعة العاشرة الزلزال الذي أتى، ثم رحل تاركاً ورداً وضحكاً وأضواء ساخرة على كل عيوب السياسيين والسياسة والمجتمع. كان هو الجنون الذي لم تستطع وقتها أي حكومة أن تحاكمه أو تمسه أو تتعرض له، كان اقوى من كل حكومات أيام زمان!
كان مسرح دودول حفلة ألعاب نارية، تشعل الماء، وتشعل الشجر، وتشغل اللحظات، وتشعل اللاعبين والمتفرجين! كان هو التصادم اليومي بين الواقع المحزن الذي نعيش فيه والمثل الأعلى الذي يحلم به دودول. لهذا حاول أن يرسم في مسرحه ضحكة ليس فيها عسكر ولا رجال دين. كانت مساحة الكلمة فيه كمساحة الضحكة تماماً، وكان مسرحه يُحدث ارتجاجاً في قشرة كرة لبنان الأرضية في ذلك الزمان الجميل، وكان يُحدث بسخريته الذكية الحضارية الراقية تغييراً في خريطة الدنيا اللبنانية وخريطة الإنسان اللبناني.
كان دودول بعد أن توقف مسرح الساعة العاشرة يشتاق الى الوطن فيحمله ويشرب معه الخمر حتى الفجر، ويحاوره حتى الفجر، وكان الوطن عندما يسكر في آخر الليل يعترف لـدودول بأنّه هو أيضاً بلا وطن!
لقد حفظ دودول للمسرح كبرياءه، لأنه عرف كيف يكره "مسح الجوخ".
كان جزءاً من سفر العصافير وسفر المراكب ورائحة الأزهار وبكاء الأمطار على قراميد بيروت القديمة، لهذا قدمت كل هذه الكائنات استقالتها الجماعية الى الله، لأنها بعد موت دودول تشعر أنّها أصبحت عاطلة من العمل.
كان مسرح الساعة العاشرة آخر الأشياء الجميلة في حياتنا اللبنانية!
كان مسرحه آخر قصيدة قبل أن ندخل في الأمية!
وآخر حبة قمح قبل أن ندخل في زمن اليباس!
مسرحه كان آخر قمر قبل أن تهاجمنا العتمة!
اذا كانت فلورنسا تفخر بميكيل انج، وفينسيا تفخر بزجاجها الملون، والقدس تفخر بعدد انبيائها وقديسيها، والبصرة تفتخر بأنها أرض المليون شجرة نخيل، فإنّ لبنان يفخر بأنه كان بلد مسرح الساعة العاشرة الذي صنعه دودول.
دودول لن يرحل لأنّ بعلبك ستبقى، والأرز سيبقى، كما مسرح الساعة العاشرة سيبقى جزءاً من تراث لبنان.
انت يا عبدالله وإن رحلت، لكنك تبقى في القلوب.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم