الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"البندقية ٧٣" افتُتِح بـ"أرض اللا لا": رقصة على قبر الميوزيكال!

المصدر: "النهار"
"البندقية ٧٣" افتُتِح بـ"أرض اللا لا": رقصة على قبر الميوزيكال!
"البندقية ٧٣" افتُتِح بـ"أرض اللا لا": رقصة على قبر الميوزيكال!
A+ A-

داميان شازل ذو الوجه الطفولي، كلاس وهادئ. يتبلور المنطق الكلامي عنده تصاعدياً، تماماً مثل فيلميه الأخيرين. يدخل قاعة المؤتمرات في مهرجان البندقية الثالث والسبعين (٣١ آب - ١٠ أيلول) ليجد حشداً ضخماً في انتظاره. مئات مراسلي الصحف والنقاد، منهم مَن يفترش الأرض. معه إلى يمينه إيمّا ستون (غاب راين غوزلينغ)، بطلة "أرض اللا لا" الذي افتتح الـ"موسترا" أمس. إيمّا تلك، هي الأخرى الرقيقة الناعمة (إلا عندما تتكلم، فصوتها الذكوري يناقض شكلها الخارجي). هي أيضاً تبدو هادئة، مرتاحة إلى وضعها، متأكدة من "صحة" الفيلم الذي جاءت به إلى جزيرة الليدو، تخاطب الحضور بعينيها الواسعتين. تصغر مخرجها بأربع سنوات. قبل سنتين، فقط سنتين، كان شازل ذو الحادي والثلاثين عاماً، مجهولاً كلياً من الجمهور العريض. والآن، الصحافة المتعدّدة الاهتمام وليس فقط المتخصصة، تحتفي به وتصفّق له فور دخوله القاعة. والتصفيق له أكبر حجماً من التصفيق لستون. هذا إذا حدث من جانب صحافة المنوعات الإيطالية، فاعلم أنّه موجّه إلى الفيلم، لا إلى المخرج الذي يفتقر أي رصيد. كان يكفي شازل فيلم واحد ("ويبلاش") نال عنه جائزتين في سندانس وشارك به في كانّ ولمع نجمه في الـ"أوسكار"، ليقفز نهائياً من الظلّ إلى الضوء. وليس أيّ ضوء، ذاك الذي ينير أعتق تظاهرة سينمائية في العالم.


تتحدّث ستون عن السينيكية: "نحن في عصر يهزأ فيه الشباب من كلّ شيء. وهذا الفيلم كلّ شيء إلا هذا المنطق". تغازل شازل متحدّثة عن اتقانه عمله، رداً على سؤال من صحافي، وسرعان ما يغلب الطبع التطبّع، فتقول: "لا تصدقوا ما قلت، إنّه حثالة!". يضحك الجميع عدا شازل الذي لا يحبّذ ربما مثل هذه الدعابة، إلا إذا حمله فكره الشارد بعيداً من هنا؛ فهو منذ وصوله كرّر غير مرة ومن وحي فيلمه عبارة "الآن، وأكثر من أي وقت مضى، نحن نحتاج إلى الرومنطيقية". فشازل لا يأخذ الأمور بخفّة، تكفي مشاهدة فيلمه لتدرك ذلك. ولمن يتذكّر طباع أندرو، العازف المصرّ على النجاح في فيلمه السابق "ويبلاش"، لن يتفاجأ بصرامة مخرجه وقدرته على الردّ على الأسئلة بجمل مفيدة ومترابطة. شازل لا يخفي إعجابه بالثقافة الإيطالية، أفلاماً وطبخاً: "جئتُ إلى هنا قبل أسبوع من بداية المهرجان. إنّه حلمٌ يتحقق، ونجاح "ويبلاش" مهّد لي الطريق... ". تخيلوا أنّ مخرج فيلم الافتتاح في البندقية، كان يهدر وقتاً في جوار الليدو منذ أسبوع، حباً بإيطاليا (إلا اذا كانت الإقامة لأغراض ترويجية، ذلك أنّ فيلمه بدأ عرضه في الصالات التجارية المحلية أمس).



 


"هذا فيلم عن شعور الوحدة. سخرنا من كلّ شيء نكرهه في لوس أنجليس: الزحمة، ثقافة المشاهير، السطحية، إلخ"، يقول شازل من دون أن ينفي التأثيرات السينيفيلية التي ألقت بظلالها عليه. في رأيه، ثمة أسباب جعلت الميوزيكالات الأميركية تتحدى الزمن. أراد نموذجاً قديماً للميوزيكال الأميركي، وإنما مطعّم بأحاسيس عصرنا الحالي. يأتي على ذكر بعض القامات الكبيرة في هذا المجال، وحين تسأله صحافية أيهما أقرب إلى قلبه، ستانلي دونن أم "غريز" (ميوزيكال شهير لراندل كلايزر - ١٩٧٨)، فيحسم لمصلحة دونن طبعاً. هذه حقيقة لا تحتاج إلى سؤال أصلاً، نظراً للمشهدية التي نكتشفها في الفيلم. في المقابل، أحدٌ لا يأتي على ذكر "مظلات شربور" لجاك دومي، لدرجة أنّ شازل يضطر إلى تسميته في جملة اعتراضية. فتحفة دومي التي نالت "سعفة" كانّ العام ١٩٦٤، مصدر إلهام جدي لـ"أرض اللا لا": خيوط متشابهة، ميلانكوليا متشابهة، نهاية متشابهة...


"أرض اللا لا" فيلم مبهج لا شكّ، أقلّه في بعض جزئيته، ولو أنّه يدور ويدور حول نفسه طويلاً، صانعاً الحلقات الدائرية نفسها بتنويعات وأصوات وألوان مختلفة، ولكن متقاربة لبعضها البعض. ما يعانيه العمل هو ما يعانيه معظم الأفلام: المادة الشحيحة غير الكافية لفيلم من ساعتين؛ الحوادث القليلة التي تجعل مجمل المشروع يبدو مفتعلاً. الحكاية؟ هل هناك فعلاً حاجة لشرحها والدخول في تفاصيلها. فنحن هنا أبعد ما نكون عن المقاربة الشفهية. "أرض اللا لا" تجربة بصرية كاملة. شازل يعبّر بالصورة، لا يكترث لأي حوار، "كلوز أب" من هنا "ترافلينغ" من هناك، ويصل إلى المتلقي ما يجب أن يصل. مشاهده قصيرة، لغته مختزلة، صورته حنونة، العلة إن كلّ ما كان يصلح لتوظيفه لمصلحة النصّ، يقف في لحظات حائلاً بينه وبين الفيلم.



 


"أرض اللا لا" يحتضر لحظات ثم يعود، ثم يموت ثم ينبعث من جديد. الافتتاحية بمشهد زحمة على إحدى الطرق السريعة في لوس أنجليس المعاصرة. العالقون فيها سينتفضون لنراهم يغنون ويرقصون على سقوف سياراتهم. أوكي، النبرة صريحة والمقصد واضح. هذا فيلم أنشودة لعصر السينما الذهبي، تحية للفنّ السابع، بحيث يستمد منه شرعيته. يستعير شازل من أفلام كثيرة، ندعكم تكتشفونها لأن عددها غير قليل. كوميديا جريئة، لا خلاف على ذلك، ليس فقط كمغامرة انتاجية غير مضمونة النتائج، بل لأنّ شازل أقدم على تصوير مجمل العمل، بأدق تفاصيله، على الطريقة القديمة المتلاشية. حتى البنية السردية، ومنها طريقة اللقاء بين الفتاة الحالمة بالتمثيل (ستون) والشاب الطامح إلى افتتاح نادٍ للجاز، لا تنتمي إلى عصرنا هذا ولا إلى المنطق المعمول به. والغناء بدل الكلام هو الآخر لا ينتمي إلى مفردات عصرنا المتشعب، المستعجل، البراغماتي. الموسيقى هاجس عند شازل، عالمه الداخلي مشبّع بها، هناك ميوزيكالية ما حتى في لحظات الصمت العابرة لفتت إحدى الناقدات، وهي محقّة في ملاحظتها، وهذا ما ينقذ الفيلم من الغرق. الكوريغرافيا تصل إلى ذروة الألق في أكثر المَشاهد فانتازية (يا للأسف، لن نعرف البتة ماذا كان فعل مخرج مثل ستانلي دونن بالتكنولوجيا الحديثة لو عمل في أيامنا هذه)، والفيلم نفسه يبلغ ذروته في كلّ مرة احتكّ فيها بالسينما. فهناك مثلاً مشهد صالة: التماهي مع "تمرّد بلا قضية"... بديع!


 


[[video source=youtube id=DBUXcNTjviI]]


 رغم العناصر الايجابية، الفيلم غارق في كينونته وطافح بطموحه، طوال ساعتين وأكثر بقليل، مهزوز بـ"أناه"، حدّ أنّه لا يعود يفرز إلا المزيد من المَشاهد المكررة، وهذا كله تبرره فكرة إثارة البهجة في النفوس المشحونة بالسواد والضغينة. النيات طيبة، ولكن لا تكفي لإحياء جانر سينمائي شبه منقرض. يبلغ "أرض اللا لا" في بعض لقطاته ذروة المشهدية السينمائية، فهو كلاسيكي حيناً وحداثوي معدّل حيناً آخر. النصّ الذي يتوزّع على المواسم الكافة، ينطوي على عِبر أخلاقية أكدها بلسانه شازل في لقائه بالصحافة: "أن نتشارك ذكريات مع أحدهم، فهذا منتهى الصفاء". عن الطموح والأحلام المكلومة والوصولية والمساومة وحياة الفنانين الهامشيين في #هوليوود الذين ينتظرون فرصة في أي لحظة، يأتينا شازل بفيلم "مقصّر" يرضي الجمهور العريض، متضلّع تقنياً واستيتيكياً (التقاط مَشاهد: لينوس ساندغرين)، ولكن في الوقت عينه مثقل بسجالات لا يعالجها إلا ربع معالجة، ذلك أنّ الميوزيكال ليس المحل المثالي لهذا كله. الشخصيات المطروحة تحمل سمات بسيكولوجية يستمدها شازل من عمق السينما الهوليوودية الكلاسيكية: الفرد الذي يؤمن بشيء ولا بدّ أن يبلغه بالاصرار. ولكن هل تحقيق الذات يوفر السعادة؟ إيما ستون وراين غوزلينغ يقومان بوظيفتهما، وبالتأكيد ليسا فرد أستر وسيد تشاريس. السحر الذي يولد من لقائهما سببه تناقضهما، حتى على مستوى الأداء التمثيلي. فستون "تفريغية" فيما غوزلينغ استيعابي. في النهاية، "أرض اللا لا" فيلم خارج الزمان والمكان، أو عن الاستحالة بالنسبة إلى البعض ترك هذا المكان وهذا الزمان اللذين لا تتيحهما إلا #السينما.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم