الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

هل يصح "تنبؤ" شارل مالك في أوضاع العالم العربي ومصير لبنان؟

جوزف باسيل
A+ A-


في 15 آب 1949 أرسل شارل مالك الوزير المفوّض في الولايات المتحدة الأميركية ومندوب لبنان الدائم لدى الامم المتحدة، تقريراً من ثلاث نسخ الى رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح ووزير الخارجية فيليب تقلا، يعرض فيه وجهة نظره في أوضاع المنطقة آنذاك ومستقبلها، وفي حال العرب ومستقبلهم بعد قيام اسرائيل عام 1948، ودورها في المنطقة بمساعدة أميركا.
وصف غسان تويني التقرير بأنّه "وثيقة من أخطر الوثائق الديبلوماسية العربية"، وبأنه "تنبؤ ولو بالشؤم"، قائلاً: "إن قراءة متن التقرير ستكون على حد سواء مدعاة شغف واستغراب، نظراً الى ما فيه من "الموضوعية الرؤيوية".
دار تقرير مالك على محور فلسطين، كما غيره من تقارير أرسلها خلال أربع سنوات سابقة، لأن فلسطين "هي مرآة صادقة للوضع العربي، كونها أخطر قضية عربية على الاطلاق، وبالتالي مآلها هو مآل العالم العربي بكامله". وتوقّع ما يحصل حالياً بقوله: "كل ما حصل حتى الآن، (تحديداً نكبة 1948 وتداعياتها) وبصددها ليس سوى بداية، أمّا الخاتمة فقد تكون، إمّا محق العالم العربي واستعماره من قبل اليهود أو نهوضه من جديد عالماً عصرياً محترماً ومشتركاً مع الحضارات الحية في خلق القيم وصيانتها". وها نحن نشهد على محق العالم العربي من محيطه الى خليجه. ويحيل الى أقوال اليهود: "إن إسرائيل قد بزغت من حربها (الأولى) مع الدول العربية أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط"، وأنه "سيكون في العالم، بعد خمسين سنة دولتان فقط، الولايات المتحدة واسرائيل". أليس هذا ما تتجه اليه الأوضاع في العالم. هناك قوة واحدة وقوة إقليمية واحدة هي الأقوى والاكثر أماناً في منطقة النزاعات والحروب، هي إسرائيل التي تتفرج على المقتلة العربية مطمئنة البال. ولو بفارق بضع سنوات عن الخمسين سنة.
ورأى وضع اسرائيل في العالم العربي، ضمن ثلاث حقائق:
1 – أن العالم العربي لن ينام على الضيم، وقد وقع به ضيم في فلسطين.
2 – أن العالم العربي لن يتمكن من محق اليهود في فلسطين، واسرائيل لن تتمكن من محقه.
3 – أن طبيعة الحركة الصهيونية وثّابة، وعلاقتها بالعالم العربي محتمة، عليها أن تكون وأن تظل دائماً وثابة كذلك. وهي لذلك ستنزع حتمياً وطبيعياً نحو إحدى نتيجتين: إما اكتساح العالم العربي والسيطرة عليه، أو انكسارها هي "وكبّها في البحر". مقضي على الصهيونية، وقد استقرت وسط العالم العربي، أن تتغلب او تُغلب، أن تبقى بقاء السيطرة أو تفنى. أما السلام بينها وبين محيطها العربي، والتفاهم الصادق، فلا امكان لقيامهما.
إن تاريخنا في المئة سنة المقبلة هو بالضبط تفاعل هذه الحقائق الثلاث، أي أن هذه الحقائق الاخيرة هي مبادئ التاريخ العربي في القرن المقبل. وكتب "سيأتي يوم وقد يكون قريباً إن لم يكن حاضراً، لا يحل فيه ولا يُربط في العالم العربي شيء، إلا برضى اليهود... وسيأتي يوم يصبح فيه مصيرنا مربوطاً بالدرجة الأولى باليهود، بعد أن كان في ما مضى مربوطاً بارادتنا وارادات الدول الغربية، فيظهر أننا على عتبة العهد اليهودي في الشرق الأوسط. وسيأتي يوم يثبت فيه اليهود للغرب أنهم هم ناقلو الحضارة الغربية الى الشرق الادنى، وانهم هم حملة مشعال التقدم وهم منفذو التعمير فيه. وسينجحون في اقناع الغرب، وبعض سياسيينا ومفكرينا، أنهم هم واسطة الاتصال بين الغرب والشرق الادنى، في الاقتصاد والعمران، في الثقافة والفكر، وفي السياسة، وأنهم هم الجديرون بتمثيل الشرق الادنى، في مصالحه وإرادته وقواه، لدى الغرب. ولقد بدا اليهود بالفعل منذ اليوم يتغنون بهذا المصير، ويعلنونه محتّم القيام". الا تنحو الأمور هذا المنحى؟ ألسنا قابي قوس أو أدنى من هذه الحقيقة؟ حين نشر هذا التقرير قام من القومجيين أنظمة وأحزاب من يبخّس به ويتهم صاحبه بالعمالة للاستعمار، وبأنه يعمل على تقويض البنيان الفكري العربي وتهشيم النفسية العربية المتوثبة! فيما يبدو أن التقرير كان يستشرف المستقبل. وأضاف: "وسيأتي يوم، إن لم يكن قد حضر تصبح فيه اسرائيل بمحض وجودها وبطبيعة اتجاهاتها ومصالحها – عقبة تحول دون قيام المشاريع السياسية والعسكرية التي من شأنها وقاية مصالح الشرق الادنى".
وحذّر من الظن أن الاستفادة من المادة الرابعة من بيان ترومن تتم باستقلال عن الإرادة اليهودية، أو أنها تتم لمصلحة العرب دون اليهود. وإنّ الكثيرين من محبي العرب أيضاً، بين الاميركيين الاحرار يخشون على العرب الوقوع في هذه الحبائل.
"... وأخيراً قد يأتي يوم تتألب فيه الصهيونية ودول شرقية أخرى – كتركيا مثلاً - متآمرة على العالم العربي. وأني ألمح من الآن دلائل واضحة لقرب وقوع ذلك اليوم. وما دام اتكالنا في الدرجة الأولى على غيرنا وعلى الظروف، فليس شيء مستحيل الوقوع أو بعيد الحصول". ويلفت الى أن تخلّف العالم العربي سيسمح لاسرائيل بالسيطرة، فكتب: "ما دام العالم العربي قانعاً بوضعه الحاضر من التأخر في العمران والنظم الابتدائية في الاقتصاد والحرمان المادي الشنيع لأربعة أخماس أهليه، والهلهلة في تركيب الدولة، والتفكك في إرادات حكوماته وعدم الاتحاد في سياساتهم العليا، وما دام العالم العربي في عزلته الروحية والعقلية والكيانية، منكمشاً على نفسه، غارقاً في ماضيه، لا يريد أن يفيد أو يستنير، وما دام العالم العربي مغلوباً على أمره سياسياً وغوغائياً وعاطفياً وخيالياً ولغوياً، وما دام لا ينهض فيه سيد قوي محرر يطلب العز والوجود والنور والحياة ويغدقها جميعاً بسخاء على شعوبه التعسة: فليس من قوة على الاطلاق تستطيع أن تقيمه من الانهيار، أو ان تصونه من سيطرة اليهود عليه".
هذه ليست عقدة من اليهود، بل هو لسان حالنا جميعاً نردّده، ويردّده من كانوا قبلنا منذ مطلع القرن العشرين.ونحن نرى أنّ العالم العربي ليس قابعاً في تخلفه فحسب، بل يكثر من التخلف.
وأضاف: "أني أزن كل كلمة أقولها، وأني مسؤول عن كل مفهوم أعنيه. وأني متأكد من كل ما ذكرته فوق من تنامي الخطر اليهودي على العالم العربي". فالخلاص لا يراه مستحيلاً، لكن بـ"ثورة اجتماعية سياسية تفي بمقتضيات الساعة". "في انتفاضة العالم العربي بقيادة أمينة نيّرة، نحو الحياة الحرة الصحيحة الطالبة الكيان الحقيقي فوق أي شيء آخر، أمله الوحيد بالخلاص من الخطر اليهودي. أمّا تقاعسه عن هذه الانتفاضة فسقوط أكيد في الهوة التي يعدّها له اليهود". كلام شريف ومستشرف. تأملنا خيراً في ما سمّي "الربيع العربي"، لكنه صار "خريفاً" منذ لُزّم أميركياً - واسرائيلياً الى الاسلاميين بكل فروعهم.
وهو دعا الى قيام حركات تحرّرية تحقق اصلاحات جوهرية: تلغي الاقطاع، وتقصي عادات ونظماً كالحجاب مثلاً، وتنتفض على الحواجز المذهبية، وتدخل تعديلات أساسية على النظم الحكومية، وتتمثل الاصلاحات في مشاركة الشعب في تقرير شؤون بلده، ورفع الحرمان والتأخر عنه، وادارة شؤونه، وأن يكون مسؤولاً عن قراراته. وكتب أنّ الحرمان "هو التربة الخصبة لانتشار الايديولوجيات الداعية الى الفوضى، وبالتالي التمهيد لقلب الاوضاع بصورة ثوروية فنائية متخبطة عمياء. إنّ خطر الظلمة تترعرع فيها اكثرية شعبية وتتغذى حقداً وكراهية وبغضاً ونهماً للانتقام، لأبلغ بكثير مما يزعم أنّه خطر النور يوقظ الضمائر ويعرّف الشعب بحقوق له مهضومة أو بأوضاع تحوطه فاسدة". ولا يستقيم الحكم "إن لم يشعر الشعب أن حكومته منه وله، وأنّها مسؤولة نحوه مبتغية خيره، وأنّه هو مساهم في تركيبها قيم على أعمالها فعبثاً ننتظر منه أن يشعر أنّ فشلها فشله، وأن مسؤوليتها هي أيضاً مسؤوليته، وأنّ المهمات التي تواجهها هي مهماته فينطلق للمساهمة في مواجهتها مضحياً بكل ما لديه من غالٍ ورخيصٍ.
لذلك لم يستقم الحكم ولم يستقر لا في لبنان ولا في أي دولة عربية ولن يتم ذلك، إلا إذا عملت السلطات بنصائح مالك.


مصير لبنان
رأى أنّ لبنان جزء لا يتجزأ من العالم العربي، و"مصيره ليس مستقلاً عن مصيره"، لذلك "إن بسط اليهود سلطتهم على البلاد العربية وأسسوا العصر اليهودي في الشرق الأدنى، فمن الوهم أن يظن اللبنانيون أن هذا السلطان لن يشملهم".
غير أنّ لبنان "يجب أن يظل مستقلاً سياسياً تمام الاستقلال. فلبنان لا يحقق رسالته المتواضعة لنفسه وللعالم العربي وللعالم أجمع، إلاّ في حرية واستقلال سياسيين تامّين". وحذّر من أن الضغط سيتزايد سياسياً واقتصادياً لإذابة لبنان في سوريا، وقال: "بقاء لبنان حراً مستقلاً يقيس نضج العالم العربي السياسي وبعد نظره، ومحاولة محوه اعتباطياً تقيس ابتدائيته وعدم نضجه". لكن لم يصِّح معه أنّ العالم العربي سيهبّ لنجدة لبنان اذا هددته اسرائيل واعتدت عليه، فهذا لم يحصل في عدوان اسرائيل عام 1982، ولاعام2006 ، لكن ما صح معه أن اسرائيل ستحدث فوضى في لبنان تجرّ الى تدخل سوري عربي، فتدخل اسرائيلي، وبالتالي الى حرب جديدة. "ولن يكون لبنان الكاسب فيها على الاطلاق".
أما لبنان فينقذ نفسه بأن "يقوّي أسباب العقل والروح فيه، اذا عرف عنه أنه يعبد الحرية الحقة والعقل والروح فيه ، وكان هو بالفعل كذلك، فإني اضمن بقاءه".
إنّ دوره في العالم العربي أن "يحقّق اقتصاديات علمية غربية. ويؤسس صناعات فذّة في الشرق كله. ويحرّر اجتماعياته تحريراً تاماً بحيث يضرب به المثل في الشرق والغرب"، وقال: "لبنان مدعو لأن ينتج علماً ونقداً أو فلسفة ولاهوتاً لا مثيل لها في الشرق على الاطلاق. وأنا أؤمن أنّ هذه الدعوى العقلية أخطر دعواته كلها". وأضاف: "ما ينقص لبنان هو إيمان بنيه به. والايمان لا يمنح إلاّ الى الذات الفذة القيمة. أما ذات لبنان الفذة... فتتألف من امكانات الفكر والعقل والروح الحرة الايجابية فيه". ما هو العمل الممكن في تقرير مصير لبنان؟
أن تخصص الحكومة كل سنة خُمس ميزانية الدولة في سبيل المشاريع والمؤسسات العقلية: لتنظيم اقتصادات واحصاءات علمية دقيقة، لتأسيس المعاهد العالية، لتشجيع التأليف والنشر، لخلق حركة فنية عقلية حرة صاخبة لا عهد للبنان ولا للعالم العربي لها منذ الأزل. كل هذا ممكن. فليس بالسياسات يصير لبنان ويبقى، بل بالعقل النير الحر المتصل بالتراثات الاصيلة المجسد فعله في مؤسسات وحركات، المنظم للمادة والحياة، المتفجّر معرفة وحقيقة وجمالاً، المحب الهادئ الشامل الوديع".
وأرى مناسباً أن أختم بما كتبه: "اني لا أصف هذه الاخطار المحتملة عن روحية انهزامية في نفسي، ولا اتكهن بها كأنها أخطار محتملة الحصول، بل اني أنذر منها، أولاً لأني أدرك أيضاً أن تحقيق اليهود هذه الامنيات ليس مستحيلاً، بل ليس عسيراً، ما دام العالم العربي على الحال التي هو فيها الآن".


 نشرت "دار النهار" التقرير في أربع طبعات بعنوان "اسرائيل... أميركا... والعرب تنبؤات من نصف قرن".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم