الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

الأب سليم دكاش مستحق مستحق

القاضي عباس الحلبي
A+ A-

حسبت أنني على معرفة كافية بالأب سليم دكاش، وذلك لأن علاقتي به تعود إلى سنين عديدة، يوم كان رئيساً لمدرسة الجمهور. تكرّر لقائي بأب يسوعي سرعان ما تكتشف، كما اكتشفت، أنّه إنسان متواضع لا يقيم حواجز مصطنعة ولياقات مقنّعة، ومذذاك وحتى انتقاله إلى عمادة كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف كثرت لقاءاتنا، فالكلية فيها معهد الدراسات الإسلامية المسيحية، وفيها برنامج أكاديمي ومحاضرات حرة، فتوثقت بيننا العلاقة، وإذا بالعميد الجديد يتمسك أكثر بانفتاح الكلية والمعهد على الآخر المختلف، وتتعزّز المواد التي تعطى للطلاب، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية وموضوعاتها والموسوية وتفرعاتها والدرزية واجتهاداتها، جزءاً أساسياً من منهج الدراسة مع المسيحية بجميع معتقداتها وطقوسها.
أمّا طلبة الكلية وطالباتها فلم تعد مقتصرة على الرهبان والآباء والراهبات، بل جنباً إلى جنب عمامة الامامة الاثني عشرية بالقرب من عمامة أهل السنة والجماعة مختلطة مع عمامة الموحدين، حتى غدت هذه الكلية ملتقى حوار على قول بني معروف للروحانيين والجسمانيين يتحاورون ويتعلمون ويستمع أحدهم إلى الآخر، وعلى المنصة أستاذ أو أستاذة يحمل الصليب أو يصوم في رمضان. وازدهرت البحوث، وكذلك المحاضرات، فخرجت في كتب مطبوعة في دار المشرق الدار التي تولّى إدارتها.
وانتخب الابونا في رئاسة الجامعة وحدث الانتقال من المربعات الصغرى إلى التحدي الأكبر، وأحدثت النقلة دوياً بالغاً في جدران المباني وأثراً محموداً في عقول الأساتذة والعاملين، ولكن الأثر الأبلغ كان في نفوس الطلاب والطالبات، إذ سرعان ما شعروا، كما الآخرون، أنّ أحجاراً حرّكت المستنقعات الراكدة وورشة اجتاحت الجامعة وطالت البرامج والمناهج وطرق التعليم وأساليبها في الشهادات وشروطها في الاختصاصات وفروعها في اللغات وتنوعاتها، والأهم تجاه القدامى وما أكثرهم وما أهمهم.
فشنت عليهم الحملة وتلقّفها بعض المخلصين منهم في الوطن وبلاد الانتشار الواسعة. فجاب الأبونا الآفاق إلى قطر ودبي والإمارات، إلى نيويورك وكندا، إلى أوروبا، إلى كل مجمع للقدامى يعقد في بيروت لاستنهاض الهمم وتأكيد التواصل والانتماء. ولكي يجمع القدامى قدّم أرضاً لبناء بيت القدامى، وإلى جانبه خرّيج افتخرت به الجامعة واعتز به القضاء هو الرئيس الحبيب شكري صادر.
تلك شهادة من يعرف سليم دكاش الذي شرفني باختياره لي متحدثاً عنه في تكريمه، وإذا بي أكبر فيه ليس تواضعه الجم فحسب، ولكن رمزية توسمتها من خياره، وأنا إبن الجبل من المقلب الآخر لكسروان حيث هو نشأ وترعرع، لتأكيد راية المصالحة بين أسلافنا، كما خطوته التقريبية مع الجامعة الأميركية، فسادني الحبور لأنقّب في بواطن المؤلفات والخطب في ما كتب عنه وكتب، وإذ بي متواضع المعرفة به لأكتشف أيضاً بحراً من العلم وموسوعة من الفكر وثروة من الأخلاق. حسبي أن أعود إلى نماذج من خطبه على مدرّج احتفالات مار يوسف شفيع الجامعة الذي شهد خطباً زلزلت أوضاع سياسية كبيرة في زمن سابق وأمام الجسم التعليمي والإداري والطلاب والخريجين وهم الشريحة الواعية والمدركة والخائفة على مصير الوطن والراغبة في الامتياز.
فالتربية بمفهومه تنشئة الإنسان وتنمية قدراته لكي يبلغ القدر الكامل من الانفتاح على الآخر. والجامعة في مفهومه لبنانية متأصلة، ولكنّها في خدمة العيش المشترك وترقية نخبة لبنانية مثقفة. يحدّد مشكلة لبنان بأنها مشكلة إدارة التعددية، وللمساهمة في حل هذه المشكلة يجب العمل على تنشئة الأشخاص في المجتمع من خلال الحرية التي تواجه الحريات الأخرى والاختيار الواعي لسلم القيم الهرمي. ولبنان التعددي عبارة عزيزة على قلب أبونا دكاش، لأنّه ثمرة الميثاق الوطني الذي يجب أن يجدَّد كل يوم وحوله الخطر الجسيم المتمثل بالتطرف الديني الذي يدّعي التدين والإسلام ويستند إلى الشريعة في أحكامها خارج زمانها ومكانها، محذراً هو من عودة عصور الظلامية، داعياً إلى تأكيد التضامن الأكاديمي الحر مع جميع الأصوات لمواجهة حركات الإرهاب والتطرف والتعصب والمواجهة بالتضامن بين المسلمين والمسيحيين، ولكن بوسيلة الكلمة الحرة، والهم أن تبقى الجامعة مركزاً للتميّز والإصغاء إلى المجتمع الذي تتأصل فيه، ويتم فيه حكم تقويمي على حالة المجتمع والسياسة. وفي هذا الإطار أبونا ليس محايداً، كما لا يرضى أن تظل الجامعة محايدة، لأنّه وهي أبناء المجتمع في قلب المدينة.
فتح الجامعة على اللغات الثلاث ليس فقط للطلاب اللبنانيين، بل ليأتيها طلاب من المنطقة ويكتسبوا قيم الجامعة وثقافتها المتميزة. والأبونا يريد للجامعة أن تتكيف مع متطلبات السوق لإعطاء الطالب حياة مهنية وشخصية ذات معنى، لكي يعطي بدوره هو الحياة هذا المعنى.
إنه رجل لا يخاف المصاعب والتحديات، فارس مليء بالنشاط والانتاج. هو صاحب قضية نبيلة تستمد من نبل شخصه قوة، مثال للالتزام يطبّق معاييره على نفسه قبل أن يسأل الآخرين التطبيق. مهجوس بالجامعة وإرادة الاستمرار والبقاء والصمود والتقدم كصورة الصراع الذي يخوضه وطنه ليحفظ حريته واستقلاله وديموقراطيته. وكما وطنه تخلّص من المحن وانتصر، هو كذلك بالإرادة والعزم أمين على الرسالة. من كانت سيرته الوطنية على هذا النحو ومسيرته المهنية على هذا الامتياز ومساره العملي على هذا النجاح يستحق عن جدارة الجائزة التي تحمل إسم الرئيس الذي نقل البلاد من الدويلات إلى الدولة، والوطن من الضياع إلى التلاقي والأهم أعاد الاعتبار للسياسة بمفهوم إدارة الخير العام، كما تنص شرعة العمل السياسي، في ضوء تعاليم الكنيسة تكون مضامين الجائزة قد تحققت وتطابقت واستحقت. من هنا استحق الأب سليم دكاش والجامعة معه، والتي أعتز بتخرجي منها جائزة الرئيس الياس الهراوي في ذكراه العاشرة، وهي تعطى لمن يحفظ الميثاق ويمارسه في أي موقع كان ملتزماً معنى لبنان ودوره الحضاري في هذا الشرق. وتسلّم بيد حاملة الأمانة ومتابعة الرسالة ورفيقة الدرب الصعب والمشاركة في الحلم والإنجاز الست منى الرئيسة الأولى الدائمة لعملها ودأبها في الموقع وإيلاءها الاهتمام بالإنسان وبالثقافة. فهنيئاً لك الجائزة التي تستحقها عن جدارة وهي تكبر بك، كما كبرت بمن حازها قبلك، أعطيت لك إشارة تقدير وعربون وفاء لمن يحمل العمل بامتيازه والعلم برفعته والأخلاق بسموها وكلها مجسّدة في سريرتك النقية ونفسيتك التقية. مستحق أنت مستحق.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم