الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

التسرب الوزاري بين "قاع" البقاع، وقاع النفط

رشيد درباس
رشيد درباس
التسرب الوزاري بين "قاع" البقاع، وقاع النفط
التسرب الوزاري بين "قاع" البقاع، وقاع النفط
A+ A-

"لم يظهر من هذه الشعلة إلا الدخان"
جبران


منذ أكثر من سنة، أزجى إليَّ أخي النقيب جورج طوق رسالة على شكل كتاب غاية الأناقة، عنوانه "اقلب الصفحة يا فتى..." فالتبس عليَّ الأمر، وأنا الأسنُّ منه عاماً واحداً، إذ كيف أكون فتى وقد توغلنا معاً في العقد الثامن، وخلَّفنا وراءنا شباباً وذكريات وخيبات وتجارب؟ ومن أين نأتي بالوقت لنقلب الصفحة؟ وأيَّةَ صفحة سنقلب وقد قلَّبتنا الكتب على مدار الفُتُوة والشباب والكهولة والشيخوخة المفضية إلى الرحيل؟
وضعتُ الكتاب على رفّي ككثيرٍ غيرِه، بعد أن وعدتُه - كما وعدتُ كتباً قبله - بأنني سأرافقه في رحلة لطيفة عند أول فرصة تسنح أو فسحة تسمح بقراءة حرة، فقد استرقَّتْني المسؤولية كامل النهار وهجست الأحلام معظم نومي.
ولا أظنها إلا ظاهرة أولى للتمرد على التكيُّف الذي اسَتْنقَعتُ فيه، عندما قررتُ أن ألزم مدينتي طرابلس، وأستثمر مكتب المحاماة الذي استثمرني نصف قرن، فأعزف عن توقيع المعاملات، وضرب المواعيد، وعقد الاجتماعات، متذرعاً بالجراحة التي أجراها لي "وَرَّاقُ" العيون- وأظنُّه سمي وَرَّاقاً لأنه يُمكّن العيون من قراءة الأوراق- ورحتُ أسرِّحُ فكري ومشاعري في أمواج الأرخبيل الممتد من نافذتي إلى نافذة اللانهاية، فرأيت ضوءاً يومئ لي من إحدى نوافذ الرفوف، فنظرتُ، فإذا هو "اقلب الصفحة يا فتى" أي الكتاب الصادر عن لجنة جبران ومتحف جبران بالتعاون مع وزارة الثقافة، وهو باقة مخطوطات لم تنشر لنصوص أصلية بخط جبران خليل جبران، فوجدتُني أُعِدُّ نفسي لهذا المقال قبل أن أفُضَّ الغلاف كي أقلب الصفحة كما يأمر العنوان.
سليم وردة وزير الثقافة سابقاً، أراد أن تكون مقدمته، كظلِّه، رقيقة عميقة في آن، فاكتفى بصفحة واحدة، ذَيَّلها بقول صاحب الكتاب: "إنَّ النسيان شكل من أشكال الحرية، والتذكار شكل من أشكال اللقاء"، وأمل في الخاتمة أن يكون الكتاب لقاءً رائعاً وحميماً...
أما توطئة أنطوان الخوري طوق، رئيس لجنة جبران ورئيس بلدية بشري سابقاً، فهي توطئة لعودته لما خلقه الله له، أي للإبداع الأدبي المدهش الذي يُمَوِّهُهُ صاحبه بأقنعة التواضع والتقيَّة الفنية، وبانخراطه الممِضّ في الشأن العام، فيما هو على حقيقته، المثقف الذي تتحاماه العشيرة كلها، فتلجأ إليه عشائر بعيدة المسافة، دانية المضافةـ، تدور فيها كؤوس ضوء يتساقاها رائقة الفكر الزلال والحلال مع السيد هاني فحص ونسيب لحود وغيرهما ممن سكنتهم هموم قومهم، فيما القوم في غفلة عن عظمتهم وشجاعتهم.
يختم أنطوان توطئته بما كتبه جبران لماري هاسكل عن أنه "يحب دائماً أن يحتفظ بمادة صالحة للنشر"، فساقني هذا إلى أن أعطي الكلام عن الكتاب هذا الحيِّز الطويل، مُتَّكئاً عليه لكي يكون مقالي "مادة صالحة للنشر" في ظرف مصيري دقيق يحتاج إلى خطاب سياسي يستمد جوهره من قيمة مفكرين منحونا ثروة باذخة، فبددناها بلا دراية، وحقَّ علينا وصف السَّفَه، وحكم الحجر. إذ إنَّ من المفارقاتِ الغريبةِ حتّى الإيلام أن تذهبَ الممارسةُ السياسية عندنا في نحوٍ مخالفٍ للقواعد الفكرية التي وضعها الرعيل الأول من هؤلاء المفكرين في السياسة والأدب والاجتماع، ونظَّروا فيها لنشوء الوطن بعد تحرير الهويّة واستعادتِها من غربة التتريك. ولو أنَّ هذه الممارسةَ جاءت في إطارِ تحديث ما رآه الرادة، لما كان في الأمر من غضاضة... بيد أنها اتَّسَمَت في الغالب الأعم بطابع التخلّي عن معطياتِ الفكر والغوصِ في المصلحيات المتقلبة؛ في حين أن الأمم الحية تبني سياساتِها على نظريات استراتيجية لا على مصالح آنية؛ فكأنَّ أهل السلطة في وطننا لم يسمعوا أبداً بأسماءِ ميشال شيحا ونعوم مكرزل ويوسف السودا وقسطنطين زريق ومارون عبود وأحمد فارس الشدياق وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة، أو كأنَّ هؤلاء مخلوقات فضائية لم تزرِ الأرضَ إلا على صهوة خيال.
في إحدى رسائله لمي زيادة يقول جبران: "لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من الشعلة إلا الدخان"، وهو في هذا يشير طبعاً إلى الدخان الأبيض المؤذن بالبشرى. لكن وضعنا الآن، بدخانه الأسود، ينذر بما هو أدهى؛ فالنار الملتهبة حولنا، لا تهدد فقط بالامتداد إلى ربوعنا، بل نحن نخشى اندلاعها في تضاريس الجغرافية والديموغرافية، وأن تمدَّ ألسنتها إلى بنيتنا التراثية الهائلة من باب الشماتة والتبكيت، فلا هي تشبع عن التهام خُضرة ماضينا ورزقة مستقبلنا، ولا نحن نكفُّ عن السعي اليها بأرجلنا " يوم نقول لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد " ص.ع.
وربما كانت لحظتنا هذه هي الأكثر حرجاً، لأن اللهب المتفاقم بتسعير من بعض الدول الكبرى وقبول وتواطؤ وصمت غبي من دول أخرى، يهدد الآن باجتياح مستودعات النفط والغاز النائمة تحت قاع البحر، لأن السعي إلى إيقاظها واستخراجها قد يحيق به الطمع الاسرائيلي الذي لا يستطيع التَهتُّك السياسي أن يصدَّهُ، ولا تقوى الإرادات المتناحرة على تأليف موقف إقليمي ودولي يصون ثروتنا من الأطماع المركبة التي قد تُفضي إلى تقويض الكيان وبعثرة الدولة.
من "قاع" البقاع، إلى قاع النفط يتقاذفنا الموج ويتجاذبنا التيار، ولم يتبقَّ من مظاهر الدولة، سوى مجلس نواب لا يجتمع، وطاولة حوار لا تملُّ من تبادل الكلام ذاته، وحكومة بدأ يضربها التسرب الوزاري الذي أُشَبِّهُه بالتسرب المدرسي؛ ولو كنت ذا موهبة في الرسم الكاريكاتوري لرسمت اللواء أشرف الريفي خارج السرايا سعيداً، يراقب الوزير آلان حكيم وهو يعتلي سورها بطوله الفارع، ورأسه الساطع، مُخلِّفاً وراءه زملاء يحبونه، فيما أحاول أنا أن أحذو حذوه فيشدُّني عن هذا الوزير سجعان قزي مستعيناً بجسم قوي وسجع شجي...
هذا ليس "من شرِّ البلية" كما يقول المثل. لكن في أعماق كل وزير، بل في أعمق أعماق رئيس الحكومة، رغبة حقيقية في المغادرة أو في التسرب... لأن "أصحاب الكرْم" الذين نصَّبونا نواطير عليه، لا يأبهون لما يتهدده، ولا ينتخبون رئيساً للجمهورية، تنتهي معه وكالتنا التي استطالت أكثر مما يحتمل الدستور، وأبعد مما تطيق قدرتنا على البقاء فوق متن الحكم الرجراج.
يُروِّج الرئيس بري لسلة متكاملة؛ والسلة ذات ثقوب تسمح بالتسرب، فهل يستعيض عنها ببرميل محكم الغطاء؟ وهل سيخرج "ذو النون من بطن النون".
في "قاع" البقاع تجاوزنا الغرق، أما في قاع النفط فعلينا تلافي الحريق.

 وزير الشؤون الاجتماعية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم