الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

المسيحيّون بين الحضور والوجود

المصدر: "النهار"
الشدياق يوسف "رامي" فاضل
المسيحيّون بين الحضور والوجود
المسيحيّون بين الحضور والوجود
A+ A-

تَعتمد الأُمَم المتحدّة على معايير أربعة لإدراج شعبٍ أو جماعةٍ ما ضِمنَ خانة "الأقلّية".


أوَّلًا معيار "القياس النسبيّ": لا بُدَّ من وجود أكثريّة عدديّة من عرقٍ أو دينٍ أو ثقافةٍ أخرى تعيش على المساحة المشتركة مع الأقلّية العدديّة، وتَقيس عدد الأقليّة بالمقارنة مع عددها. نأخذ "جمهوريّة #مصر العربيّة" على سبيل المثال حيث يصحّ هذا المعيار إذ إن الأكثريّة المسلمة تقيس نسبة الأقباط بالمقارنة مع نسبتها، في حين أن هذا المعيار لا يصُحُّ في سويسرا إذ إنَّ الجماعات التّي تعيش في #سويسرا تتصرَّف على أساس المواطنة بِغَضّ النظر عن الانتماء الدينيّ أو العرقيّ أو الثقافيّ.
ثانيًا "المعيار القانوني": يَقتَضي هذا المعيار وجود نصوص قانونيّة أو دستوريّة تُصنّفُ الجماعة أو الشعب كأقلّيّة، نأخذ على سبيل المثال "نظام الملّة" العثمانيّ، ومعظم الدساتير والقوانين في الدوَل الشرق أوسطيّة التّي تخصّص فقرات عديدة لتنظيم وضع الأقليّات، كأن تُخَصِّصُ لهم مقعدًا نيابيًا أو نسبة تمثيل في الإدارات الرسميّة.
ثالثًا "المعيار التمايُزيّ": يقتضي هذا المعيار وجود ما يُميِّزُ الأقلّيّة عن غيرها أكان على الصعيد العرقيّ أم الثقافيّ أم الدينيّ. لذا نرى أن تصنيف الأقلّيّات يتسِّع ليشمل الأقلّيّات الدينيّة والطائفيّة والعرقيّة، ويتعدّاها إلى الأقليّات الثقافيّة والجنسيّة والاجتماعيّة، إذ يمكن لنا أن نرى جماعةً ما مكوّنة من إتنياتٍ مختلفة وأتباع ديانات متعدّدة تحيا ضمن نظام اجتماعيّ واحد يجعلها تتمايز عن غيرها.
رابعًا "معيار القبول": وهو المعيار والشرط الأهمّ الذي بدونه حتّى ولو توافرت الشروط السابقة الذكر ينتفي تصنيف "الأقليّة" عن الجماعة. ويقتضي هذا المعيار من الجماعة أن تَقبَل وضعها وتصنيفها كأقلّيّة وأن تَتصرّف على هذا الأساس. ويُمكن اعتبار الجماعة "أقلّيّة" في حال توافر هذا المعيار دون توافر غيره، ذلك لأن الشرط النفسي هو الأساس، وعلى سبيل الذكر نرى أن شعب "الأورومو" في أثيوبيا الذي يُشكِّل أكثريّة عدديّة يتصرّف كأقلّيّة ما يجعل شعب "الأمهاريك" الذي يُشكِّلُ أقلّيّة عدديّة يتصرّف كالأكثريّة.
كان لا بدّ لنا من هذه المقدّمة الطويلة من أجل الدخول إلى واقعنا وواقع جماعاتنا في هذه البلاد وبشكلٍ خاص إلى واقع الجماعة المسيحيّة في لبنان في زمنٍ بتنا نرى فيه أنَّ وسائل الإعلام والخطاب السياسيّ لا يتوانيان عن اعتبار الوجود المسيحيّ "أقلّيّة". وأكثر من ذلك بتنا نرى في الخطاب المسيحيّ نَفَسًا أَقلَّويًّا بغيضًا، مع احترامنا ومحبّتنا للجميع.
وبالنسبة إلى المسيحيين في لبنان، وبشكلٍ خاص الموارنة منهم فخلال تاريخهم الطويل ورغم أنّهم كانوا "أقلّيّة عددية"، ورغم أنَّ "نظام الملّة" شرَّع وضعهم القانونيّ كأقلّيّة، ورغم أنَّهم يتمايزون عن إخوتهم بالدين والثقافة، إلا انهم لم يعتبروا وجودهم يومًا بمثابة "الوجود الأقلَّويّ"، بل جَنَحوا باتجّاه الحريّة فسكنوا جبال لبنان الوعرة للحفاظ على "الأغلَيَين" وهما "الحريّة والإيمان" على ما يقول البطريرك مار نصرالله صفير. وقامت النهضة العربيّة على أقلامهم وسواعدهم التي تَساعَدَت مع أقلام وسواعد إخوتهم المسلمين من أجل الارتقاء بهذه المنطقة إلى أرقى مما كانت عليه.


أمّا اليوم وأمام الأخطار الوجوديّة العديدة من الخَطَر التكفيريّ إلى أخطار السياسات الدوليّة بالإضافة إلى التراجع النسبيّ في أعداد المسيحيين وانحسار حضورهم –وهنا أشدّد على الفارق بين عبارة "حضور" وعبارة "وجود"- عن العديد من المجالات التي برعوا فيها خلال تاريخهم الطويل.


فقد يبدو للبعض أن الخيار الأسهل والأضمن هو أن نُصَنِّف ذواتنا ضمن خانة "الأقلّيّة"، عسانا نستمطر عطف المجتمع الدوليّ فيبادرون إلى الحفاظ علينا كجزءٍ من التراث الخاصّ بمنطقتنا وكأحد الآثار التي تشهد على حقباتٍ تاريخيّة متنوّعة في هذه البقعة من الأرض.
هذا النوع من التفكير قد يكفل لنا بعض "الوجود" إلى أن ننتهي بفعل الهجرة وتدنّي نسبة الولادات، لكنّه لا يكفل لنا أيّ "حضور" في بلادنا بل ينزح بنا نحو خانة "الحيوانات أو النباتات المهدّدة بالانقراض". وهذا ما يؤكّد وجودنا السلبيّ الذي لا يشكّل أيّ قيمة مضافة للمجتمع الذي نعيش فيه. وإذا عدنا إلى تصرُّف الكنيسة الأولى لنستلهم رجالاتها في الإجابة على هذه المعضلة، لوَجدنا أن الرسول بطرس لم يكتفِ بجماعة المعمَّدين الذين دخلوا الكنيسة يوم العنصرة، ولم يذهب للمطالبة بمقعدٍ من مقاعد "السنهدريم" أي المجلس اليهوديّ، ولم يصرخ أمام هيرودس أو الأمبراطوريّة الرومانيّة طالبًا حماية جماعته، بل تابع رسالته وحضوره حتّى الاستشهاد. وبالنسبة لبولس الرسول فنراه لا يتذرَّع بالإرهاب اليهوديّ من أجل الاستسلام بل يطلب من المسيحيين أن يلتزموا بوطنيَّتِهم وأن يتابعوا رسالتهم دون أيّ يأس أو استسلام. والأهمّ أن أدبيّات "الأقلّيّة" تغيبُ غيابًا تامًا عن كتابات الرسل والآباء والقدّيسين، كما تغيبُ عن سلوك الكنيسة ما جعلها تشهد الانتشار والازدهار الذي جعلها تَصل إلى جميع أقطار الأرض. أمام هذه المقارنة البسيطة بين سلوكيّات الأمس وسلوكيّات اليوم نستنتج أنّ الخطر الأكبر على المسيحيين هو "المسيحيّي" متى اعتبروا أنفسهم "أقلّيّة".
في إمكاننا اليوم أن نتصرَّف كقطعة "آثار" إلى أن ينتهي مِنّا التاريخ، وبإمكاننا أن نتصرَّف كالملح فنذوب في هذا العالم ونعطيه النكهة ونحفظه من الفساد فنلتزم قضايا مجتمعاتنا وشعوبنا ونكون رأس الحربة في الدفاع عن كرامة الإنسان وقدسيّة حياته بغضِّ النظر عن دينه وعرقه. فننتصر على الخطر الأكبر الذي يُهدد وجودنا ويُطفئ الروحَ فينا ألا وهو اعتبار حضورنا "وجودًا".


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم