اشترِك في نشرتنا الإخبارية
أعوذ بالله من شرّ الشيطان أم تحية له؟
يُختَصر يحيي الفخراني بثلاث كلمات: الفرادة، الكثافة والتألق. وبكلمات أخرى لمن يشاء الاستطراد في وصف إنسان رائع. يطلّ الفخراني في "ونوس" ("سي بي سي"، "إيه آر تي حكايات") واثقاً بمكانته في القلب، مدركاً أنّ المسؤولية تجاه الجمهور ترافق الفنان طوال حياته. ونوس كاراكتير ملغوم قد ينفجر في وجهك أو في وجهي. مخيف بدهائه، يثير حوله التساؤل والتردّد والحذر. هو كالفجأة غير المُنتظرة وبرق السماء في خريف مستعجل. يجمع المسلسل تيمة الفخراني وهاجسه الدرامي: المال مقابل صراع القناعة مع النفس البشرية. الثلاثي الراقي يجدّد لقاءه: السيناريست عبد الرحيم كمال، المخرج شادي الفخراني (له حضوره رغم ظلال أبيه)، والممثل يحيي الفخراني. بعد "الخواجة عبدالقادر" (رمضان 2012) و"دهشة" (رمضان 2014)، يطلّ الثلاثي في "ونوس" (عن مسرحية "فاوست" لغوته) بجمالية درامية تضاف إلى النضوج. دور "شيطاني" بارع يشرّع الباب على علاقة اليقين بالخرافة. إنّها أجواء دراما الفخراني وروحية مسلسلاته، من دون أن يصطدم دورٌ سابق بدورٍ حالي، وتتشبّه شخصية بأخرى ويعمّ التقليد. هنا مهارة الثلاثي و"ثعلبيتهم".
الأسرة أمام التلفزيون في سهرة روتينية مملة، فيظهر ونوس فجأة. ومضة تروح وتجيء، لا تعريف لها ولا ماهية. يطلّ ونوس على يوميات أسرة لا تبتغي سوى السترة، مدّعياً أنه صديق الوالد الغائب منذ 20 سنة، مخلخلاً قواعد البيت، نافضاً الغبار عن أرواحه. قول ونوس إنّ الأب ياقوت (نبيل الحلفاوي) يملك ثروة، استنهاضٌ للنفس الطمّاعة في باطن الأبناء. ونوس ممن يظهر ويختفي كأنه دائم الظهور وفي الآن عينه دائم التواري لا أثر له. مثل الظنون والهواجس. ومثل الاقتراب من الموت.
(نيكولا معوض).
في مسلسلات الفخراني، يستفرد المال بالإنسان ويقلب حياته. ليس ونوس وحده مَن يفتح حسابات الماضي ويطرح إمكان إعادة محاكمته. هو ضمير كلّ شخصية المُعرَّض للمساءلة. تتصارع التيمات تمهيداً لمخاض أليم يمهّد بدوره لولادة مرتبكة. تدخل أسرة انشراح (هالة صدقي) في خضمّ النار المنسية منذ زمن. كلٌّ في مواجهة الثلاثية الجحيمية: الإيمان- الخرافة- الحقيقة. تحوم في المسلسل أسئلة عن "صيبة العين" و"فكّ النحس" و"المعجزة"، ويظهر ونوس صاحب يد في خربطة العقول من دون الاكتراث الفوري لإعادة ترتيبها. اتهام ابن ياقوت بجريمة قتل، في مقابل توتّر علاقة الأم وعائلة ابنها (نيكولا معوض في دور الشيخ فاروق بتجربة تمثيلية يفوق حضورها تجارب سواها)، بدايات تآكل الأسرة بنار أشعلتها بيدها وأخفت على مدى سنوات ألسنتها بالادعاء والطمس والتكتّم.
حتى الآن، ونوس ملفات تُفتَح لتُحرَق وتحرق مَن حولها. يعبث بكلّ شيء، يشيطن، ويترك حيث الانتظار أملاً مجنوناً. يظهر عبره أنّ الجميع تقريباً مُصاب بالهشاشة، ومعلّق بقشّة نجاة من الغرق. قدرة ونوس على الشفاء من الشلل وخَلْق التجدّد في عمق شخصيات متآكلة، يضعان المُشاهد أمام احتمال أن يكون "الشيطان" وفي الآن عينه "المخلّص" القادر على اختراق عبثية الظرف. ولهذا "الشيطان" لمسات تمنح القلب إحساساً بأنّ الطمأنينة ممكنة، وثمة طاقة أو قوة أو قدرة من شأنها مَدّ جسر بين النفس ورغباتها وبين ما تطاله اليدّ وما يستحيل الحصول عليه. نلقي التحية على "شيطان" درامي جميل يختزل مقولة أننا "كلنا حكايات ما يصدّقهاش إلا لعاشها". شيطانيته خاطفة كما تُخطف شعرةٌ من عجينة، "جامد أوي"، يقذف شرراً من عينيه مثل تنين خبيث ضاحك. تلك الضحكة على وجهه ساحرةٌ خطيرة.
Twitter: @abdallah_fatima
