الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أمين معلوف بين الخضوع والإنفتاح

فرح الدهني
أمين معلوف بين الخضوع والإنفتاح
أمين معلوف بين الخضوع والإنفتاح
A+ A-

 


على خطى الياس خوري الكاتب التقدّمي والروائي الفذّ، يطل علينا أمين معلوف صاحب "ليون الافريقي " و"حدائق النور" عبر إذاعة "i24" الاسرائيلية ، في برنامج ثقافي، لمحطة أطلقها باتريك دراهي قبل ثلاث سنوات، بالفرنسية والعربية والانكليزيّة، في محاولة للكشف عن وجه اسرائيل الثقافي وانسنتها، قبل الحكم عليها سلفاً من العالم.
ولا يخفى على أحد انّ الياس خوري هو علم من اعلام الرواية العربية ، أثّر في اجيال اليوم والامس قرّاءً وكتّاباً ، وكانت رواياته ومنها "باب الشمس "(1998) ، " زمن الاحتلال" (1985)، و "أبواب المدينة "(1981) ، جواز سفر إلى فلسطين التي زرناها من خلال سرده السلس، فتخيّلنا دورها واروقتها ، وعاداتها وتقاليدها ونزاعاتها وشهداءها وهواجسها وتطلعاتها وآمالها وخيباتها، مشكّلاً كغيره من الأدباء وعينا بقضايا الأدب والتاريخ والثقافة والمجتمع...
وقبل عامين اي في أيار 2014، اجرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مقابلة هاتفية معه، في مناسبة صدور الطبعة العبرية من روايته "الوجوه البيضاء".... ودون الولوج في نظرته لمسألة التطبيع مع اسرائيل التي يراها ممكنة فقط ضمن إطار الادارات الرسمية والًصحف والإعلام والادب، تلفتنا هنا المفارقة التي تتجلّى بأبهى حلّتها بين المُستَضافيْن : "خوري" و"معلوف"، بحيث أنّ الأوّل كان يمتلك الجرأة على الأقل في الإفصاح للإعلامي الاسرائيلي ،عن معاناة الفلسطينيين، ونقل صورتهم الدامية، ودافع عن حقهم الشرعي في الارض ، بيد أنّ الثاني شارك الاعلامية حلقتها المطوّلة، بابتسامته المعهودة ، محاوراً، لا مؤاكِلاً ، كتلميذ نجيب أمام الكاميرا،وهو يقرأ شذرات من كتابه "Un fauteuil sur la Seine" (2016)، مقدّماً النصائح لجمهوره ومشاهديه، وكأنّ شيئاً لم يكنْ !
وهنا تطرح الأسئلة نفسها :ألا يشكّل حوار الثقافات هذا اعترافاً ضمنياً بدولة اسرائيل وتطبيعاً ثقافياً معها ؟! ... ألا يضحّي أمين معلوف بصورة الكاتب الذي يحبّه الملايين من العرب ويعتزّون به ويقرأونه بنهم على مذبح المجتمع الفرنسي الذي صنع نجاحه الأدبي إرضاءً له؟!
من جهة أخرى،هل سقط امين معلوف في فخّ مفهومه الخاص لهويّة الإنسان؟ ام انّ المقابلة هي تطبيق حيّ لانفتاحه؟!
في الفصل الاول بعنوان "هويتي وانتماءاتي "من كتابه "الهويات القاتلة" ، يلفتنا من القراءة الأولى فصله بين الهوية والإنتماء ، كمبادرة للتمييز بين مفهوم "الانتماء" وغالباً ما يكون متنوعاً ومتعدداً ، و"الهوية" التي هي ثمرة هذه التعددية ، كلوحة مشكَّلة من زركشات ألوان متباينة ، لا تحمل صبغة واحدة منها ، وإنما هي نتاج ذاك الخليط المتناغم فيها .
وفي هذا الفصل يعرّف امين عن نفسه بأنه عربي مسيحيّ لعائلة تفتخر بمسيحيتها منذ عشرات السنين . يتكلم العربية، وبالتالي له جذور في وطن ينضوي تحت لواء عالم عربي يتقاسم معه اللغة والأديان والتاريخ . كذلك هو آسيوي لبناني و أوروبي فرنسيّ، ويضيف إليها العديد من البصمات التي تحدد ماهيته ، لنجد انفسنا اخيراً أمام خلاصة مفادها أنّ الهوية تتشكل من عشرات العناصر، التي يتشارك فيها الإنسان مع غيره من الأفراد والجماعات وهو ما يُسمّى بالإنتماء، إلا أنه ينفرد بما يميّزه عن غيره. وكل واحد على سطح هذا الكوكب لا مثيل له وهو ما يُسمّى بالهويّة.
كذلك، يرى معلوف أننا كائنات مركبة وفريدة في آن واحد، وانطلاقاً من هذا المبدأ يسلّط الضوء على الفخ الجحيميّ الذي نقع فيه جميعاً، حين نأخذ عنصراً من هذه العناصر المشكّلة لهويتنا ، وننحاز له دوناً عن غيره ، فنقول : "انا عربي" ، أو " انا مسلم" ، "مسيحي" ، "أبيض" ، "أسود" ..إلخ ، معتبراً أنّ هذه الأيديولوجية كفيلة في تحويل الكائن البشري بسهولة إلى سفّاح يقاتل للدفاع عمّا يعتبره هويته التي أضحت بدورها شريكة في الجريمة !...لذا يطلق امين على الإنتماء صفة الصديق المزيف ، إذ يصبح في رفّة عين أداة خطرة نؤذي بها كرامتنا تحت لواء الدفاع عنها، ونتعدى بها على حقوق الآخرين ....
بيد أنّ بعض الملمّين بمؤلفات أمين معلوف عموماً، والمتابعين له على مواقع التواصل الاجتماعي، وجدوا في نظرته للهوية إشباعاً وجدانياً لا فكرياً، معتبرين أنّ انفتاحه الفكري والبعد الإنسانوي في كتاباته ما هما إلا قرابين يقدمها على مذبح الانتشار والرواج والشهرة العالميّة ، بدءاً من المجتمع الثقافي الفرنسي الذي كرّسه بجائزة "غونكور" عام1999 ، وغيرها من التكريمات، وأدخله عضواً في الأكاديميّة الفرنسيّة قدس أقداس الأدب عام 2011 ، إلاّ انّ آخرين يرون في مفهومه لمنطق الهويّة المشرَّعة على مختلف المشارب ما هو سوى تملّص بشكل او بآخر من الجذور العربية وما يترافق معها من التزامات بقضايا عربية محضة كقضية فلسطين والوجود الاسرائيلي وغيرها ، لطالما عبّر عن امتعاضه من الجذور لأنها تتحكم بالشجرة الدهرية ، فإمّا ان تزوّدها بالماء لتعيش، وإمّا أن تحرمها منه فتموت ...في حين يعارض طرف آخر ما سلف من أقوال ، واصفين "امين معلوف" بوجه حضاريّ يدعو إلى التفلّت من كلّ الصغائر التي أشبعتنا حرباً ودماراً،قتلاً واقتتالاً على مر السنين، والتي كان من الممكن أن ينجرّ إليها لولا هجرته من لبنان التي فرضتها عليه الاحداث الكفيلة في جعل كل منّا مقاتلاً : لانني عشت في بلد في حالة حرب، وفي حيّ يتعرض للقصف من حيّ مجاور، ولأنني أمضيتُ ليلة أو اثنتين في قبو تحول إلى ملجأ لي ولزوجتي الشابة الحامل وطفلي الصغير، بينما أصوات الانفجارات في الخارج، وفي الداخل الف شائعة عن هجوم وشيك. وكذلك الف قصة عن عائلات ذبحت ، اعرف الخوف يستطيع ان يدفع أيّ شخص لارتكاب الجريمة .
فلو حدث في حيي مذبحة حقيقية بدلاً من الشائعات الكاذبة هل كنتُ حافظتُ على برودة دمي لفترة طويلة ؟ ولو انّي امضيت شهراً في ذلك الملجأ بدلاً من يومين هل كنت سأرفض حمل السلاح الذي سيضعونه في يديّ ؟ " (الهويات القاتلة)، وهو الداعي ايضاً إلى الحذر من تأليه الإنتماءات لذاك الحزب وتلك الطائفة اوذاك العرق...على حساب الهوية التي يُفترض أن تتشكل من كلّ ما يعلق في نفوسنا من قيم إنسانية اكتسبناها غير محصورة بدين او طائفة أو عنصرية معيّنة "لقد ولدت على كوكب لا في بلد ..أجل وبالطبع ، ولدت في مدينة ، في طائفة،في أسرة، في حضانة ، في فراش..لكن الولادة هي المجيء إلى العالم، لا في هذا البلد أو ذاك ، لا إلى هذا البيت أو ذاك (التائهون)، ولم ينكر مناصروه ان مقابلته مع التلفزيون الاسرائيلي خطأ فادح، لكنّ ما تجرّأ على فعله معلوف في العلن ، يفعله الكثيرون في الخفاء ، وهو في خطوته هذه يغلّب الانفتاح على التعصب والظلامية، وحوار الثقافات باسم الفن والانسانية ...
ولا ضير من الاعتراف بأنّ "أمين معلوف" هو مبدع متميّز من لبنان لطالما رفع اسمه عالياً كنغمة شجية ،في أذن عالم باتت تطنّ مع ذكره ضوضاء الفساد واللامبالاة والحرب ، وهو روائي محترف يستحضر في كتبه حقبات تاريخية ، متجاهَلة وربما منسية ، مسلّطاً الضوء عليها ، في سياق تاريخيّ شيّق ، إنْ في روايته الابداعية "سمرقند" ، أو " ليون الافريقي" او "حدائق النور " وغيرها ....وهو الدّاعي دائماً إلى التحرر من قفص المذهبية والعنصرية والتحليق في فضاء الفنّ والانسانية الرّحب..
وأنا بدوري ، اعترف بأنه من الكتّاب الذين أتابع إصداراتهم على الدوام ...لكن أيضاً من الجدير القول، انه مهما كان بعيداً عن مواطنيه، ومنقطعاً عن بلده وأهله ، فنحن نربأ به أن يكون قلباً وقالباً على صورة ما ينقله لنا وللعالم من مثاليات، وألا يوظّف تميّزَه الإبداعيّ، وعضويّته في الأكاديميّة الفرنسيّة، في خدمة شهرته، طمعاً على سبيل المثال في ترجمة كتبه إلى العبرية كما يحصل مع "الياس خوري" ، وبالتالي يدخل العالم من اوسع ابوابه، على حساب تناسي أوجاع ابناء جلدته والتغاضي عن معاناتهم ...
ولا شكّ اننا، لبنانيين وعرباً، نعتزّ ب"امين معلوف " علماً من اعلام الادب والرواية وإنْ بلغة "موليير"...لكن فليحذرْ "الدعسة الناقصة" !

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم