الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

ماتت الإسلاموية في تونس

حسين أيبش
ماتت الإسلاموية في تونس
ماتت الإسلاموية في تونس
A+ A-

تونس – "مات التشدد الإسلامي!" هذا ما أعلنه سيد الفرجاني، القيادي في الجناح التقدمي في حركة "النهضة"، الحزب الإسلامي الأساسي في تونس، فيما كنّا نحتسي القهوة في مقهى أحد الفنادق هنا (في العاصمة تونس) الشهر الماضي.


بدا الفرجاني، المتشدّد السابق الذي خطّط للانقلاب على نظام الرئيس زين العابدين بن علي، متفائلاً وهو يصف التحول التاريخي الذي كان حزبه على وشك القيام به.
كان جناحه قد اتّحد مع قيادة الحزب للدفع نحو اعتماد سلسلة من القرارات التي لن تؤدّي فقط إلى تقديم "النهضة" في صورة جديدة، إنما أيضاً إلى الابتعاد عن تقاليد الإسلام المتشدّد التي بدأت مع جماعة "الإخوان المسلمين" التي تأسست في مصر في أواخر عشرينات القرن الماضي. بحسب الفرجاني، كان التشدد الإسلامي مفيداً في ظل ديكتاتورية بن علي عندما كانت "هويتنا وعزيمتنا" تتعرّضان للتهديد من دولة سلطوية. الآن بعدما انخرطت حركة "النهضة" في السياسة الحزبية القانونية العلنية بموجب دستور جديد ساهمت في وضعه، وفيما تتنافس على القيادة الوطنية، أصبح التوصيف الإسلاموي عبئاً أكثر منه مصدراً للنفع والفائدة.
بدا زعيم الحزب، راشد الغنوشي، الذي شارك في تأسيسه، أشدّ حذراً عندما أجريت مقابلة معه في منزله. فقد أبدى انزعاجه عندما سألته إذا كان يعتقد أن التشدد الإسلامي قد مات. أجاب الغنوشي: "لا أقولها بهذه الطريقة". لكنه رفض التوصيف قائلاً: "لا نرى أي سبب لتمييز أنفسنا عن المسلمين الآخرين". يفضّل الغنوشي والفرجاني عبارة "الديموقراطيين المسلمين" – التي تتعمّد التشبّه بالأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا الغربية – للإشارة إلى الهوية الجديدة ما بعد الإسلاموية.
التزام الفرجاني الواضح والصريح بمبادئ الحرية والمساواة يجعله على الأرجح الشخصية السياسية ما بعد الإسلاموية الأبرز في العالم العربي السنّي. في حين ينعت الفرجاني نفسه بالمحافظ ويمجّد "القيم العائلية"، يقول إنه يعتبر الأمور الجنسية والميول الجنسية والهوية الجندرية – بما في ذلك مسائل التحول الجنسي التي تشغل الولايات المتحدة – أموراً شخصية وخاصة، وليست مسائل تقرّرها الدولة أو السلطات القانونية.
يلتزم الفرجاني أيضاً حياد الدولة في الشؤون الدينية. يساوي بين الحرية الدينية وحرية الضمير، ويعتبر أنه يجب أن يتمتع الملحدون واللاأدريون بالحقوق المدنية نفسها التي يتمتع بها الموحّدون. مجدداً، كان الغنوشي أكثر حذراً في المقابلة، وهو أمر متوقّع. دعا إلى المساواة بين المسلمين من جميع المذاهب، وشمل، على مضض إلى حد ما، المسيحيين واليهود، وأشار على مستوى قانوني إلى "الحماية التي يمنحها الدستور" للملحدين واللاأدريين.
في مؤتمر "النهضة" الذي انعقد الشهر الفائت، وافق المندوبون، وعددهم 1200، على معظم التغييرات الجذرية في برنامج الحزب التي دعا إليها جناح الفرجاني وقيادة الغنوشي. يتمثّل الإجراء الأهم في التخلي عن التزام الحزب بنشر "الدعوة"، ما يجعله تنظيماً محض سياسي ليس لديه أي مهمة دينية واضحة – وهذا يشكّل تحولاً جذرياً بعيداً من تقليد "الإخوان المسلمين" الذي انبثقت عنه حركة "النهضة".
في تونس وفي مختلف أنحاء العالم العربي، لا تزال الشكوك تساور الليبراليين والعلمانيين ومنتقدي التشدّد الإسلامي. لقد رأيتُ، في أكثر من مناسبة هنا في العاصمة، كيف أن فكرة تبنّي النهضة موقفاً جديداً تثير نوبات من الضحك لدى المعارضين السياسيين البارزين. يدعم هؤلاء الحوار والتعاون، وحتى الشراكة الائتلافية، مع "النهضة"، لكنهم يعتبرون أنه من المستحيل أخذ هذا الإعلان "ما بعد الإسلاموي" على محمل الجد.
صحيح أن عدداً كبيراً من قادة الحركة لم يتصالح تماماً مع فكرة الابتعاد عن رؤية "الإخوان المسلمين". بعد ثورة 2011، التي ساهمت في وصول "النهضة" إلى السلطة، بدت الحركة مصممة على التمسّك بالحكم مهما كان الثمن – إلى حين اللحظة المصيرية عام 2013 عندما أطاحت انتفاضة مدعومة من الجيش الحكومة الإخوانية برئاسة محمد مرسي في مصر. بعدما رأت النهضة سقوط نظيرها المصري، سعت جاهدة لحماية نفسها عبر التنحي والموافقة على سلسلة من التنازلات.
تلك التجربة، مقرونة مع واقعية جديدة قوامها الإدراك بأن الجزء الأكبر من التونسيين لا يتعاطفون مع حكومة تعلن صراحة أنها إسلامية التوجّه، أدّت إلى صعود المشروع الهادف إلى تقديم "النهضة" في صورة جديدة. مما لا شك فيه أن هذا كله يندرج في إطار خطة "النهضة" الطويلة الأمد للعودة إلى السلطة. بيد أن مدى صدق عملية التحول لدى "النهضة" ليس على قدر كبير من الأهمية. فالحركة لم تعد تياراً يعمل في الخفاء أو جمعية سرّية. بل أصبحت حزباً سياسياً علنياً يتنافس على السلطة في النظام الديموقراطي الدستوري الوليد في تونس.
لطالما كان متوقّعاً أن يسلك التشدد الإسلامي هذا المسار التطوري في الممارسة. لن تكون هناك أبداً معمودية يتحوّل من خلالها إسلاميون سلطويون ينتمون إلى المدرسة القديمة، بين ليلة وضحاها وفي لحظة من التنوّر الشديد، محافظين اجتماعيين ديموقراطيين. إنه بالضرورة تحولٌ سياقي فوضوي يحفّزه في شكل أساسي السعي خلف السلطة في عالم عربي حيث معظم السكّان هم مسلمون متديّنون لكنهم ينظرون بارتياب إلى دعاة الإسلام السياسي.
يتعيّن على منتقدي "النهضة" ومؤيّديها على السواء أن يدركوا أن نيات قيادتها ليست مهمة – فما يهم في النظام الديموقراطي هو الأقوال والأفعال العلنية، وليس الأفكار السرّية. حتى لو كانت التسمية الجديدة، "المسلمون الديموقراطيون"، مجرد خدعة، سيكون على الحزب أن يكمل ما بدأه من أجل الفوز بالسلطة في مجتمع تونسي لن يقبل بالإسلاموية على الطريقة القديمة. على "النهضة" أن تتحول حزب المسلمين الديموقراطيين.
مستقبل التشدد الإسلامي في البلدان الإسلامية في كل مكان على ارتباط وثيق بالمسار الذي ستسلكه "النهضة" في شكلها الجديد. ويرتبط مصيره تالياً ببقاء تونس الجديدة.
أصبحت "النهضة"، خلافاً لميولها إلى حد ما، الحزب السياسي ما بعد الإسلاموي الأول في العالم العربي. وهذا يرفع كثيراً الرهانات التي تطرحها التجربة الديموقراطية الهشة في تونس على المنطقة والعالم.


كاتب سياسي مقيم في واشنطن ترجمة نسرين ناضر
عن "نيويورك تايمز"

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم