الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

دماؤه في سوق الخضار صنعت انتفاضة الفقراء في طرابلس

المصدر: "النهار"
يارا عرجة
دماؤه في سوق الخضار صنعت انتفاضة الفقراء في طرابلس
دماؤه في سوق الخضار صنعت انتفاضة الفقراء في طرابلس
A+ A-

هنا، التهمت الأرض لحوم البشر. هنا، ما زالت تدوّي أصوات القنابل وتعبق رائحة الجثث المحروقة في الجوّ. فتمشي بحذر كي لا ترتطم بالأشلاء وسط غبار أحمر كان يكسو المكان. طعم الدم ولزاجته في فمك مريران. تحاكيك أرواح الشهداء وتصغي لأنين الأجساد. تعبر الشوارع المتشابكة، تصعد السلالم، تدخل المنازل الجريحة، لا تتحمّل... تخاف الحرب والخوف من الحرب أبشع من الحرب نفسها. هذا ليس كابوساً. هو حقيقة كثر يجهلها أو يتجاهلها. هنا، طرابلس التبانة وجبل محسن، حيث يقاتل المحارب طويلاً من أجل رغيف خبز أو مبلغ زهيد من المال. هنا في التبانة وجبل محسن، وإن غاب الزعماء، فإنّ صورهم حاضرة ترصد كلّ من تسول له نفسه مجرّد التفكير في التمرّد والعصيان أو الخروج عن الخط المرسوم. هنا الحرب، تبيع وتشتري البشر دون مقابل: خطاب قصير و200$ شهرياً، تكفل اشتعال نيران الحرب في نفوس السكان وعقولهم.


 


صديقه سقط على مرأى منه



خلال 23 جولة قتال شهدتها #طرابلس، لم ينجُ شاب من آثارها سواء جسدياً أو معنوياً. محمّد واحد من كثيرين مِمن ضحوا بأنفسهم من أجل الطائفة والزعيم والمنطقة. ذلك الشاب (25 سنة) أمضى سني حياته الأخيرة واضعاً دماءه على كفّه لكسب لقمة عيشه. يروي محمّد لـ "النهار" حادثة حصلت معه أثناء إحدى جولات المعارك، غيّرت تفكيره ومجرى حياته، "كنّا مجموعة من سبعة أشخاص، هنا في هذا المكان، حيث نقف الآن (مشيراً إلى الشارع الذي يصل بين سوق القمح وسوق الخضار)؛ ليلة لن أتمكّن من نسيانها أبداً... كان الرصاص يتطاير في كلّ مكان، أخي الكبير، أنا، وصديقي الذي ترعرت إلى جانبه... كانت المعركة حامية تلك الليلة، وقد اندلعت كغيرها من المعارك من دون سبب. أذكر أنه كان يوماً عادياً، فجأة أطلق أحد المحاربين من الضفة الأخرى (أي جبل محسن) النار، فقتل شخص من أهل التبّانة. ما هي إلاّ ثوانٍ حتى أقفلت المحال التجارية واختبأت النساء والأولاد في الملاجئ، ووجدنا أنفسنا نحن الشباب في ساحة الوغى". يروي محمّد الحوادث كأنّ ما عايشوه لم يكن خياراً بل أمر فُرض عليهم فرضاً، سلوك غريزي وبدهي ولا إرادي وما كان بالإمكان تفاديه، فالحياة قاسية وظالمة وأحياناً لا تترك لك خياراً. فالاهل قد يتحولون في لحظة تخلٍّ أعداء وخصوماً ومتقاتلين. أحد أبناء الجبل يقول لـ "النهار": "ثمة قرابة ومصاهرة تجمع بين سنّة التبانة وبيننا نحن علويي الجبل"، قرابة تخلّى عنها كلّ من السنة والعلويين في المنطقة من أجل الزعيم والمال. ويثني محمّد على كلام ابن مدينته مكمِّلاً سرد روايته عن تلك الليلة الصعبة "كان صديقي يتجه من حائط الجبّانة إلى سوق الخضار، فيما كنت أنا والمجموعة منهمكين في الدفاع عن أنفسنا(...) فجأة شيء ما جعلني ألتفت رغماً عنّي نحو صديقي، برهة وانهالت الرصاصات عليه، فاخترقت جسده من الأمام لتخرج من الجهة الخلفية". يكمل محمد بغصّة كما لو كانت تلك الليلة ألقنته درساً لن ينساه في حياته أبداً "تلقائياً رحنا نطلق النار على الجهة المقابلة لنحمي جبهتنا ونتمكن من سحبه. ربط أخي الكبير بحبل قدم صديقي الذي فارق الحياة فوراً، وراح يزحف تحت النار ليجرّه إليه وينقله إلى سيّارة الصليب الأحمر. كان ذلك عند الثالثة صباحاً (...) في هذه الليلة تخلّيت عن سلاحي وعن جعبتي وقررت التوقف عن القتال، فسافرت إلى غانا لأنقذ نفسي من بشاعة واقعنا المرير"، ولكن حبّه لأهله وأقربائه جعله يعود لطرابلس بعد فترة وجيزة.



إلغاء الآخر أدى إلى إلغاء السياسيين



انتهت المعارك اليوم. غادر رفعت عيد ومسلّحوه الأراضي اللبنانية "بقرار سياسي" وفق تعابير أهالي التبانة والجبل، فعادت الأمور إلى طبيعتها. إلاّ أنّ المال السياسي الذي كان يوزعه السياسيون حينها على السكان لإشعال الفتنة وخوض المعارك غاب عن الساحات، ليترك أهالي تلك المنطقة في حالة من الجوع والعوز الدائم. بعض السياسيين يبتزون هؤلاء الذين ينقلون لـ "النهار" الشروط والأحكام التي يفرضها الزعماء عليهم "بعضهم يمدّنا بالمال لانتخابه، فيما يشترط البعض الآخر علينا: انتخبوا لائحتنا لنوظّف لكم أولادكم لاحقاً. وهم على كلّ الأحوال لا يكترثون بنا ولا بمنطقتنا المهمّشة. هم لا يتذكروننا إلاّ قبل الانتخابات ويغيبون عنّا طوال السنوات الأخرى". يتساوى العلويون والسنّة تهميشاً وفقراً وبطالة، وهم اليوم تخلّوا عن مصطلحات الماضي لأنهم أخيراً عادوا إلى رشدهم بعدما استغلّهم الزعماء طويلاً. محاولات الإلغاء التي كان يسعى إلى تحقيقها الزعماء واهية، لأنها لم تنبع من حالة خوف من الآخر، ولكن خوفاً من الفقر.


يشنّ البعض حرباً على أنفسهم أحياناً ليعودوا إلى الصواب. عسى أن تكون جولة طرابلس الديموقراطية بصيص أمل للتغيير، ندعو الزعماء للنظر في حالة فقراء المدينة: شرّعوا المدارس للفقراء وليس للأغنياء، اخلقوا لهم المهنة ولا تعطوهم المال، مدوا لهم أيديكم ولا تمدوهم بالسلاح، ابنوا المصانع ورمموا المباني، افتحوا أبواب البلدية لتصبح مملكتهم، اصغوا لمشاكلهم لا تملوا عليهم توجهاتهم، كرّسوا أنفسكم لهم ليتحرروا من فقرهم وعوزهم وتبعيتهم، أعيدوا لهم كرامتهم ووجودهم، وإلاّ سيكون الشعب لكم بالمرصاد عند أيّ تقصير. طرابلس هي كطائر الفينيق الذي دائماً ما يعود وينتفض من رماده. لا يعتقدنّ أحد أن الشعب إذا صمت طوال فترة استغلالكم له هو في حال رضى وخضوع وسُبات دائم، لذا احذروا المارد متى استفاق من قمقمه!


[email protected]


twitter: @yara_arja

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم