الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

حماية المسيحيّين أم حماية المسيحيّين وسواهم؟

الأب جورج مسّوح
حماية المسيحيّين أم حماية المسيحيّين وسواهم؟
حماية المسيحيّين أم حماية المسيحيّين وسواهم؟
A+ A-

قال الناطق الرسميّ باسم الفاتيكان الأب فيديريكو لومباردي، إثر اللقاء الذي جمع البابا فرانسيس والإمام أحمد الطيّب شيخ الأزهر، إنّهما "ركّزا على الالتزام المشترك للسلطات والمؤمنين من الديانات الكبرى على تحقيق السلام في العالم، ونبذ الإرهاب، ووضع المسيحيّين في سياق الصراع والتوتّر في منطقة الشرق الأوسط، وحمايتهم".


حسنٌ أن يجتمع البابا وشيخ الأزهر بعد قطيعة دامت خمس سنوات، بسبب دعوة البابا بنديكتس السادس عشر حكومات المنطقة "لاتّخاذ تدابير فعّالة لحماية الأقلّيّات الدينيّة"، ما اعتبره الأزهر آنذاك تدخّلاً خارجيًّا بالشأن الوطنيّ المصريّ. غير أنّنا نلاحظ، بعد خمس سنوات، عودة الأزهر عن موقفه السابق، للحديث عن ضرورة حماية المسيحيّين.


لكن، مهلاً، هل المسيحيّون وحدهم في حاجة إلى الحماية؟ وممّن؟ هل المسيحيّون وحدهم، دون سواهم، هم ضحايا الحروب التي تعصف في منطقتنا؟ هل ينعم المسلمون في الأمان فيما يؤدّي المسيحيّون وحدهم فاتورة الحروب الباهظة؟ إنّه لمسيء ومشين، في آنٍ، للمسيحيّين أن يكتفى بالدعوة إلى حمايتهم، وكأنّ دماءهم أثمن من دماء سواهم من أبناء قومهم.


لكن، أيضًا، يثير موضوع الحماية إشكاليّات عدّة. هل المسيحيّون صنف خاصّ من الكائنات التي ينبغي الحفاظ عليها خوفًا من الانقراض؟ هل ينبغي وضعهم في "محميّات" على غرار المحميّات البيئيّة أو الطبيعيّة القائمة هنا وثمّة في العالم؟ كيف يمكن حماية المسيحيّين من دون حماية باقي مكوّنات المجتمع المتنوّع الطوائف والمذاهب، وهم الموجودون في كلّ البقاع من دجلة والفرات إلى وادي النيل؟
قال الشيخ الطيّب في حديث إلى صحيفة "النهار" (15 أكتوبر 2010): "إنّنا كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيّين في الشرق لأنّ بقاءهم وازدهارهم تعبير عن ثراء حضارة الشرق روحيًّا ومعنويًّا وثقافيًّا ودليل على أنّ الإسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر". لقد وضع المسألة في الإطار التقليديّن وفي إطار الثناء على الإسلام وشريعته السمحاء، ولم يصل إلى مستوى الحديث عن دولة المواطنة التي تساوي ما بين المسلمين والمسيحيّين. فالمسيحيّون لا ينتظرون تسامح المسلمين أو "الشريعة الإسلاميّة" معهم، فالتسامح الذي يتأرجّح ويميل بحسب مزاج الحكّام والفقهاء قد ولّى زمانه إلى غير رجعة. المسيحيّون ينتظرون الإقرار بالمواطنة الكاملة لهم في البلاد التي يحيون فيها بالمساواة مع المسلمين في الحقوق والواجبات.
أمّا ما يحمي المسيحيّين، فليس "تسامح" المسلمين معهم، بل ما يحمي المسلمين والمسيحيّين معًا إنّما هو الدولة التي تعامل جميع مواطنيها، بكونهم مواطنين لا رعايا ولا أتباع للسلطان. وهذا ما لم يصل إليه بعد الفكر الفقهيّ الإسلاميّ الذي لا يتوانى عن تكرار المقولة السائدة بأنّ الدولة الإسلاميّة هي الإطار الوحيد المقبول للدولة.


لا ريب في أنّ الخطاب الدينيّ الراهن، أو غالبيّته، يثير القلق والإحباط لدى شرائح عديدة من المجتمع تتوق إلى التغيير الفعليّ نحو المزيد من الحقوق الأساسيّة التي حُرمت منها لزمن غير يسير. وهذا القلق والإحباط لا يقتصران على أبناء "الأقلّيّات الدينيّة"، بل يطالان أيضًا المنتمين إلى "الأكثريّات الدينيّة" ممّن لا يروقهم الحكم الدينيّ، والوصاية الدينيّة على الدولة والدستور والحرّيّات العامّة (وثيقة الأزهر، يونيو 2011، نموذجًا ساطعًا). وهؤلاء يجزمون أنّهم لا يسعون إلى التحرّر من استبداد طاغٍ ليقعوا تحت استبداد جديد لا يقلّ طغيانًا عمّا سبقه. هم يسعون جميعًا إلى الخلاص من الاستبداد بكلّ أشكاله العلمانيّة والدينيّة.


أمّا دعوة البيان الذي تلاه الأب لومباردي إلى نبذ الإرهاب، وقول الطيّب للبابا إنّ "داعش ليست هي الإسلام" فخطوة ممتازة تسجَّل لهما. بيد أنّ التأكيد على كون الإسلام بريئًا من جرائم "داعش" وأفعاله الشنيعة، وهذا صحيح جدًّا، لا ينفي كون المؤسّسات الدينيّة التي لم تقم بواجبها في تعميم ثقافة الاحترام المتبادل والمساواة التامّة بين المسيحيّين والمسلمين هي المسؤولة عن تعميم ثقافة الكراهية ونبذ الآخر الدينيّ أو المذهبيّ. كما أنّ تلك المؤسّسات نفسها مسؤولة عن تعميم ثقافة الكراهية بين المذاهب الإسلاميّة، إذ إنّها لم تقم بما يكفي لإزالة أسباب الانقسامات والخلافات ما بين المسلمين أنفسهم.


ما نشهده اليوم ليس سوى حصيلة عقود من الفكر الدينيّ المتشدّد. فمنذ نصف قرن تقريبًا بدأنا نشهد انتشار الخطاب الدينيّ التكفيريّ وتكاثر الحركات التي تتوسّل العنف من أجل تحقيق أهدافها. فمؤلّفات سيّد قطب (المفكّر المصريّ الذي مات إعدامًا عام 1966) أسهمت في بروز إيديولوجيا إسلامويّة تبرّر تكفير المجتمعات التي لا تعتمد الشريعة الإسلاميّة في الحكم، وتتبنّى الإرهاب سبيلاً وحيدًا للوصول إلى ما تصبو إليه. وما انتشار "داعش" وتوسّعه سوى نتيجة حتميّة لتصاعد هذا الإسلام التكفيريّ، وعدم قدرة المؤسّسات الدينيّة الرسميّة على مواجهة الفكر التكفيريّ بفكر منفتح على العصر.
في الواقع لم نكن نتوقّع من لقاء البابا والشيخ الطيّب حلولاً جذريّة لمشكلاتنا، وبخاصّة في الظروف الراهنة حيث تسود لغة العنف والإجرام. لكن ّجلّ ما شئناه الدعوة إلى البدء بالسعي الجديّ إلى الإصلاح في الفكر الدينيّ، كي لا يبقى الكلام بلا جدوى ولا فاعليّة على الأرض، أرض الواقع.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم