الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"أنا، سعفة كانّ ٦٩"!

المصدر: "النهار"
"أنا، سعفة كانّ ٦٩"!
"أنا، سعفة كانّ ٦٩"!
A+ A-

عشر سنوات بعد فوزه بـ"السعفة" عن "الرياح التي تهزّ الشعير"، أُسند المخرج البريطاني كَن لوتش (٨٠ عاماً) أمس الأول "سعفة ذهب" ثانية عن أحدث أفلامه: "أنا، دانيال بلايك"، في ختام الدورة الـ٦٩ لـ #مهرجان_كانّ السينمائي الذي عُقد في المدينة الساحلية الفرنسية من ١١ إلى ٢٢ الجاري. "عالمٌ آخر ممكن"، أكد المخرج الكبير صاحب المواقف الواضحة، وهو يتسلّم جائزته. وكان صديقه جيل جاكوب (الرئيس الأسبق لكانّ) بعث عبر "تويتر" قبل نحو ساعة من إعلان الفائز، برسالة تقدير وحبّ لصاحب "أرض وحرية" المكرّم سابقاً في كانّ بجوائز متفرقة عدة.


لجنة التحكيم برئاسة المخرج الأوسترالي جورج ميللر التي ضمت ٩ أعضاء، رأت فيلم لوتش الملتزم قضايا الفرد وأزماته أهلاً لأرفع الجوائز السينمائية في العالم، وفضّلته على ٢٠ فيلماً أخرى عُرضت في المسابقة. تجاهلت اللجنة أفلاماً تحمسّ لها نقاد المهرجان وروّاده، أهمها: "توني اردمان" لمارين أديه (شيء يستحيل تصنيفه، ما بين الكوميديا والميلودراما مصوّر بحنان هائل)؛ "أكواريوس" لكليبير فيلو (إدانة للرأسمالية المتوحشة في البرازيل بطلتها سيدة مصابة بالسرطان)؛ "باترسون" لجيم جارموش (جارموشيات)، وأخيراً "البقاء عمودياً" (سينما الريف الفرنسية على طريقة صاحب "مجهول البحيرة"). هذه الأفلام الأربعة لم تنل أيّ جائزة، لكن فازت بتقدير الجمهور وأهل الصحافة. أياً يكن، الأصوات الشاكية كانت سترتفع مهما تكن النتائج. في المقابل، "توني اردمان" خطف جائزة الـ"فيبريسي".


رجل ستيني هو البطل المضاد لفيلم لوتش الكافكاوي. لوتش يرى في نضاله الخاسر ضد الإدارة البريطانية والنيو ليبرالية ما يستحق تسجيله. فالرجل المتحدّر من إحدى المناطق الأكثر فقراً في بريطانيا، مصابٌ بداء في القلب يمنعه عن العمل. إلا أنّ المساعِدة الاجتماعية التي يلجأ اليها تماطل في الاعتراف بعدم كفايته للعمل، بل وتجبره على البحث عن عمل بديل وإلا تعرّض لملاحقة قانونية. الفيلم بأكلمه رحلة دانيال مع البيروقراطية البغيضة التي ستُدخله في دهاليزها القاتلة، خصوصاً أنّ صديقنا ليس ملماً بالوسائل التقنية الحديثة التي تجبره الدولة على التعامل بها. دانيال سيجد في معركته ضدّ القوة الضارية مناسبة ليثبت حقّه في عيش كريم. إنّه نضال رجل ليس لديه ما يخسره. في شخصيته، نرى ظلّ لوتش، اليساري القديم الذي لا يزال يطعّم أفلامه بهموم الطبقة الكادحة.


مع هذا الفوز، يلتحق لوتش بنادي السينمائيين القلائل الذين نالوا "سعفتين"، أمثال ميشائيل هانيكه وفرنسيس فورد كوبولا وشويه إيمّامورا والأخوين داردن. كما الحال في نهاية كلّ دورة، انتقدت الصحافة الفرنسية خيارات لجنة ميللر، وهي خيارات لم تعرف اللجنة كيف تبرّرها، بل وتلعثم ميللر خلال المؤتمر الصحافي ("فعلنا ما في مقدورنا")، عندما سألته صحافية عن سبب تجاهل فيلم "توني أردمان". بدا واضحاً من النظرات التي تبادلها الأعضاء أنّه لم يتبلور كلّ شيء بتناغم، أقله بالنسبة لجائزة التمثيل التي كنا "موعودين" بأن تذهب إلى القديرة صونيا براغا عن أدائها البديع في "أكواريوس"، رغم جودة تمثيل معظم الممثلات (عدا تشارليز ثيرون)، من ضمنهنّ الممثلة الفيليبينية جاسلين جوزيه الفائزة عن دورها في "ما روزا" لبريانتي مندوزا.



أياً يكن، فالجوائز في المهرجانات ليست أكثر من رأي شلة من المحكّمين ولا ينبغي تحميل المهرجان "أوزارها". يقال أنّه يتم تأليف لائحة الجوائز عند تأليف لجنة التحكيم، إلّا أنّ التجارب أثبتت عدم إمكان تكهن أي شيء في هذا المجال. فبعض السينمائيين وزّعوا جوائز على أفلام تخالف عوالمهم السينمائية، نذكر منهم ديفيد كروننبرغ يوم أسند "السعفة" لـ"روزيتا" الأخوين داردن. عموماً، اشتغلت اللجنة وفق المنطق الذي صرّح به دونالد ساثرلاند، عضو اللجنة - الممثل في أكثر من ١٨٠ فيلماً، خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب توزيع الجوائز: "غداً، عندما سأركب طائرة العودة، سأفتقد هذا كلّه، لأنني أحببتُ النقاش مع هؤلاء البشر".


إذا كان ثمة أفلام أفضل لـ"السعفة"، فالجائزة التي نالها أصغر فرهادي عن السيناريو الذي كتبه لـ"البائع المتجوّل" كانت أكثر من مستحقة. فرهادي نفسه بدا متفاجئاً، ذلك أنّ النظام الداخلي (الجائز كسره، وفق ما شرح ميللر في المؤتمر الصحافي) لا يتيح مَنح جائزتين لفيلم واحد. بعد هروبهما من مبنى متصدّع في طهران آيل للسقوط، نتابع بحث الزوجين عماد ورنا عن مسكن، فندخل حميميتهما كما ندخل وعيهما. فجأة، يحدث ما ليس في الحساب: يدخل أحدهم على الزوجة خلال استحمامها. ماذا سيحدث تحديداً وكيف ولماذا؟ عن كلّ هذه التساؤلات التي سترافقنا لن يردّ فرهادي، مفضلاً اللبس والاختزال والخيال، والأبواب النصف مفتوحة. لا شرح ولا تحليل، كلّ الانفجارات تحصل في الداخل، داخل الشخصيات، وتبقى في الباطن، ولا سبيل لبلوغها. الفيلم نال أيضاً جائزة التمثيل (شهاب حسيني) الذي اضطلع بدور الزوج المتعطش للثأر.



الكندي كزافييه دولان نال "الجائزة الكبرى" عن فيلمه المتوسط القيمة "فقط نهاية العالم"، المقتبس من مسرحية للفرنسي جان بيار لاغارس. دولان، ابن السابعة والعشرين صاحب الدمعة السخية، كُرّم مجدداً بعد سنتين فقط من نيله في كانّ جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع جان لوك غودار عن "مومي". موهبة دولان ليست محل نقاش، لكنّ المشكلة هنا أنّه يقدّم فيلماً خارج الزمن و"متعباً". الفيلم مسرح مصوّر إلى حدّ ما، حيث الحوادث تتحرّك داخل فضاء مقفل، وإن حاول دولان الخروج منه عبر بعض لقطات التهوئة، إلا أنّ المحاولات الخجولة لم تنتشله من سمته الممسرحة الطاغية جداً.


جائزة الإخراج تقاسمها فيلمان: "بكالوريا" للروماني كريستيان مونجيو (لنا عودة إليه في مقال منفصل) و"متسوّقة شخصية" للفرنسي أوليفييه أساياس الذي كان ضحية هيصات الاستهجان خلال عرضه الصحافي. هذه القراءة التحريفية التي يقدمّها مخرج "الأقدار العاطفية" لسينما الرعب تنال إعجاب المتآلف مع مناخات أفلامه الأكثر غرابة. تجرأ أساياس أن يقدّم طرحاً مختلفاً يخرج عن الدروب المطروقة، وهو في هذا المجال يستحقّ الإشادة، كونه يخاطر من خلال إخضاع سينما المؤلف لمنطق الـ"جانر"، إلا أنه يكسب الرهان مرفوع الرأس. قدّرت اللجنة هذه اللعبة الخفية، وتجاهلت الاستقبال السلبي، وهذه هي المفاجأة الوحيدة في جوائز سيطرت عليها الخيارات المضمونة، فيما فوتت لجنة التحكيم الإشارة إلى أفلام أكثر نضجاً وجرأة كتلك التي أشرنا اليها في رسائلنا السابقة من كانّ.


البريطانية أندريا أرنولد كانت تستحقها. فهي نالت جائزة لجنة التحكيم عن عملها الباهر "أميركان هَني". الفيلم أبهرنا بديناميته وخطابه المشاكس. إنّه "رود موفي" صاخب مشبّع بأغنيات البوب والروك، بالهلوسة والمجون والجنس وأشياء أخرى تعترض الدرب التي يسلكها الأبطال. الفيلم يأخد الطريق مسرحاً له، فيه تجديد ونفحة حرية وخروج عن المألوف.


"الكاميرا الذهب" (جائزة أول فيلم) ذهبت إلى الفرنسية - المغربية هدى بنيامينا عن "آلهات" المعروض في "أسبوعا المخرجين"، أي خارج التشكيلة الرسمية. رؤية أخرى عن الواقع الحياتي في الضواحي والأحياء الشعبية ترافق المخرجة الثلاثينية منذ أحداث الضواحي العام ٢٠٠٥. قدّمت بنيامنيا خطاباً طويلاً، قالت فيه بدايةً أنّها لم تكن تكترث لكانّ قبل مشاركة الفيلم فيه. تسنى لها حتى إخبارنا بأنها كانت تعمل في تنظيف الطائرات مع أمها في حياة "سابقة". "لا يحقّ لنا أن نتعب عندما نعمل في السينما"، أكملت قبل أن تشكر عدداً كبيراً من الناس، منهم مسؤول قسم "أسبوعا المخرجين" ادوار فانتروب الذي اختار الفيلم، وقالت إنّه يملك "نظراً" (مقابل نسوي لعبارة "رجل يملك خصيتين" - أي رجل شجاع؟).


اللحظة الأجمل تجسّدت في صعود جان بيار ليو على الخشبة لاستلام "سعفة" تكريمية. الممثل الأسطورة الذي طلّ للمرة الأولى في السينما من خلال فيلم فرنسوا تروفو "الحياة الماجنة" عندما كان في الرابعة عشرة، قدّمه عضو لجنة التحكيم المخرج الفرنسي آرنو دبلشان قائلاً إنّ ليو عاد ليحدق في عيوننا، بعدما أعطانا تحديقة لم نُشفَ منها حتى الآن، في إشارة إلى تحديقته في الكاميرا في نهاية فيلم تروفو. قال ليو المتعب بسبب المرض (عمره ٧٢ عاماً): "ولدتُ في كانّ العام ١٩٥٩، يومها قدّم فرنسوا تروفو الذي كان أكثر النقاد "خطورة" في زمنه فيلمه "الحياة الماجنة". في نهاية العرض كان نصراً، صفّق الجمهور بلا توقف. اليوم، أعود إلى كانّ. لم أستطع يوماً أن أبني مساراً سينمائياً. ولكن، أخترتُ العمل مع سينمائيين أحبّهم، أمثال جان أوستاش وأنييس فاردا وجاك ريفيت وأوليفييه أساياس. أصعد سلالم كانّ منذ ٥٠ عاماً، وأطرح على نفسي دائماً سؤال أندره بازان: ما هي السينما؟ لا أملك الجواب. يخطر على بالي ما قاله جان كوكتو: السينما هي الفنّ الوحيد الذي يلتقط الموت خلال العمل".


 


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم