الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

ماتت عروبة كلوفيس مقصود قبل وفاته

المحامي عبد الحميد الأحدب
A+ A-

كلوفيس مقصود مفكر "عروبي" و"ديبلوماسي العروبة" أيضاً، وهذا يستحق قدراً من التنويه. كان يتقن الإنكليزية ومتفوقاً فيها على قدر اتقانه العربية وتفوّقه فيها. مات ولم تتلطخ يداه بمال الثراء العربي، بقي غنياً بفكره وعلاقاته العربية والدولية التي كانت تشكّل له أكبر ثروة في العالم.
كانت علاقاته واسعة بالصحافة العالمية والجامعات في العالم والمفكرين والسياسيين الكبار، وتلك ثروة كبيرة. أذكُرُ أنّه حين مُنِعت الإعلانات عن جريدة "النهار" بغية افلاسها وتلك كانت فكرة زاهي بستاني مفوض الأمن العام آنذاك، لأن "النهار" صارت كابوساً على سليمان فرنجية، ويبرر بستاني فكرته الجهنمية بأنها كانت البديل من اغتيال غسان تويني. وخيّم شبح الإفلاس على "النهار". كنت في مكتب غسان تويني أضع كل ما لدي من إمكانات للتصدي لهذه الحملة ، يرن الهاتف فإذا كلوفيس مقصود هو المتحدث من واشنطن يعرض على غسان تويني أن يكون استاذاً محاضراً في ثلاث جامعات أميركية برواتب خيالية، هذه كانت ثروة كلوفيس مقصود في علاقاته الإنسانية بالجامعات والصحافة وكبار المفكرين والسياسيين في العالم.
يمكن أن أتناول كلوفيس مقصود من زاويتين تعبّران عن ناحية جديرة بالذكر والإشارة:
1- زوجته المرحومة هالة مالك سلام.
2- منح الصلح إمام العروبة الصلحية.
3- كلوفيس مقصود عروبته هي عروبة البلاد العربية وهي تخرج من الأمبراطورية العثمانية، كان الذين وجدوا فكرها ومحّصوه كثرة من المسلمين، واكثر منهم من المسيحيين الذين كانوا يبحثون عن حلّ نهائي وحضاري "لذميتهم" وتهميشهم باعتبارهم أهل ذمة، وبينما هي تنهض وتستفيق نشأت قضية فلسطين وصارت العروبة تعني فلسطين وفلسطين تعني العروبة.
خمسة أرسوا عروبة أيام زمان فكرياً هم ميشال عفلق ومنح الصلح وجورج حبش وكلوفيس مقصود وساطع الحصري. منح الصلح لم يكن في عروبته أي دين، ولكنه راعى الدين الإسلامي.أمّا ميشال عفلق وجورج حبش فقد جعلا العروبة اسلاماً وقلب العروبة هو الإسلام وزعيمها هو الرسول محمد، حتى أنّ ميشال عفلق أسلَم في آخر حياته ودُفِن وفقاً للدين الإسلامي.
وحده ساطع الحصري (العراقي) وضع فكراً عروبياً قائماً على العلمانية، وكان من الطبيعي أن يتّجه الى عبد الناصر، ولكن محمد حسنين هيكل شريك عبد الناصر في السلطة كان يعرف أنه ليس هناك سوى مقعد واحد قرب عبد الناصر، وخاف على سلطته فأبعده الى مكتبة المعارف في القاهرة.
أمّا كلوفيس مقصود فكان عروبياً ليخرج من "الذمية" وكان ديبلوماسي العروبة.
وكان السفير ناصيف حتي سفير الجامعة العربية في باريس (سابقاً) ذكياً ومثقفاً وظريفاً وكان يرافق كلوفيس مقصود في تنقلاته الديبلوماسية، ولكي يذكّره بأنّ العالم الإسلامي ما زال متخلفاً متخبطاً، كان يقدّم كلوفيس مقصود بتسميته "محمد نور الدين مقصود الإسلام".
في رحيل كلوفيس مقصود لا بد من وقفة اجلال أمام الزوجة التي أحبّته وتزوجته متحدية كثيراً من القيم البالية، لم تكن هالة مالك سلام فتاة ثم امرأة كسائر الفتيات ولا كسائر النساء، كانت جميلة ، ابنة عزّ من اكبر العائلات الاسلامية، فوالدتها شقيقة رشيد كرامي، وكانت تُفتح أمامها أبواب كثيرة من الغنى والحلى والثروة، ولكنها من صغرها لم تكن تعشق سوى الكتب والمطالعة، ولا تبحث عن لقاء سوى مع المثقفين والمفكرين.
ولم يكن في جوّها رقص ولا ثياب فاخرة ولا أبناء ذوات، بل ثقافة ومطالعة وكتب ، مع أنّها كانت حسناء على جانب كبير من الجمال.
التقت كلوفيس مقصود فوجدت فيه المفكر الملتزم الذي كانت تبحث عنه. وكانت شخصيتها قوية جبارة حتى جعلت مالك سلام ورشيد كرامي وصائب سلام يقبلون بهذا الزواج بين مسلمة ومسيحي ويباركونه. وصارت هالة زوجة كلوفيس ورفيقته في جولاته الديبلوماسية والفكرية والسياسية، وكانت هذه أحلى أيامها وأيامه.
ولكن المرض الغادر قطع رحلة السعادة التي لم تكن اعتيادية.
اما منح الصلح، فكان مفكراً عظيماً انصبّ فكره على العروبة فوضع الدراسات والمؤلفات والمحاضرات في العروبة التي ليس فيها دين، وإن كانت تراعي الدين الاسلامي.
وكانت لديه كاريزما هائلة. لم يتفق مع عبد الناصر وإن اتفق مع البعث قليلاً أو كثيراً..
وكان هو صاحب شعار "حزب الحاكم أو الحزب الحاكم" ليفرّق بين عبد الناصر وحزب البعث.
منح الصلح هو المفكر، ورياض الصلح وتقي الدين الصلح هما السياسيان من آل الصلح. وكان منح بك قمة في العطاء الفكري، ولكن عروبتي هي غير عروبة منح بك، لأنّ الحرية لم يكن لها مكان ولا مكانة في عروبة منح الصلح.
وكان منح الصلح يستحق في حياته اكثر بكثير مما اعطي في حياته. كما يستحق التكريم الذي أعطي كلوفيس ، خصوصاً بعد مرضه الذي اقعده فترة طويلة من الزمن قرأ خلالها المكتبة العربية بكاملها.
أقول إنّ عروبتكم، ماتت من زمان، ماتت يوم لم يرفع أحد منهم صوته حين قال "ابو أياد" "إنّ طريق تحرير فلسطين يمرّ بجونيه وعيون السيمان". ولم نقرأ لأحد منهم كلمة حين انفجرت ثورات الحرية في العالم العربي، والتي دلّت أنّ عروبة ايام زمان كان فيها استبداد ومخابرات وتحقير للكرامة الانسانية. وهذه هي العروبة التي تخلو من الحرية.
رحم الله كلوفيس مقصود، وهالة سلام، ومنح الصلح، فقد كان كل واحد منهم قصة، وكانت قصته فيها الكثير من الخيال والكبرياء والفكر والترفع.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم