الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

ضياع الثورة وبئس التربية

مي شدياق
A+ A-

كم كان وقعُ الأحد 2 حزيران ثقيلاً على قلبي.
في لبنان، بلد التناقضات، أُهِنت في كنيسة القديس، الذي بشفاعتِه ما زلت بينكم أكتبُ هذه السطور.
القصة تختصر المشهد اللبناني الذي أراده البعض ناكراً ذاته ومتنكّراً لتاريخه المؤلم.
كانت الذكرى الثامنة لاستشهاد سمير قصير، بكلّ ما تحملُه من ذكريات، بعضها الموجِع وبعضُها المفتخِر بنهاية الاحتلال السوري الذي سرق مناّ أيام الطفولة والمراهقة والشباب.
بعد خصامٍ مع الصلاة، نتيجة العذاب الذي لا ينتهي، توجّهت الى عنّايا لأتضرّع الى الله، أشكره على عطاءاته، وأقول له: "لتكُن مشيئتك". كنت اشتقت الى الاختلاء بنفسي في تلك الكنيسة الصغيرة والصلاة قرب ضريح شفيعي.
قبل نحو ثماني سنوات، وبتاريخ الاحد 25 أيلول، كانت زيارتي لمار شربل، والمياه المقدّسة التي حملتُها معي هي التي نجّتني من المتفجّرات التي وضعتها يدُ الغدر تحت سيارتي لإسكاتي. أما سمير، الذي استهدفوه قبلي بأربعة أشهر، بالطريقة التافهة اياها، فلم ينجُ.
جبران تويني كمنوا له بعد ثلاثة اشهر فقط، بسيارة مفخّخة بعشرات الكيلوغرامات، ليضمنوا العجز عن التدخّل لإنقاذ هذا المؤمن الكبير. تطايرت أشلاؤه في الوديان وما زالت دموعنا عاجزة عن النسيان.
كنت بحاجة الى السجود والصفاء، ولكنّ ما عشتُه أيقظ فيّ أحاسيس الثورة على الظلم ورفض أنْ يبقى من دون محاكمة وعقاب من أثبتت الحوادث الأخيرة أنّ الانسانية منه براء.
وأنا على الدرب الجُبيليّة بطبيعتها الرائعة، شكرت ربي لأن المعركة الانتخابية لم تبدأ عملياً، وأنّ الصور العملاقة لم تزحف الى ربوعِ ضيعِنا لتُشوّهها.
فجأة ظهرت على جهتَيْ الطريق أعلام صفراء مدروزة بلا كلل على كلّ عمود. لا لم تكن أعلام الفاتيكان، وإنماّ أعلام "حزب الله".
لم أفهم بدايةً ما إذا كان الهدف إبلاغَنا بتكريس الهوية الطائفية المختلفة للبلدة التي نعبرُها، أو تسجيلُها من ضمن المربّعات الأمنية الخارجة عن سيطرة الدولة، الى أنْ لفتتني أيضاً لافتات عريضة، عليها صورة شاب وسيم في ريعان الشباب وتحتها عبارة رثاء للشهيد. وبما أنّ الجبهة الجنوبية مع اسرائيل لا تشهد ممانعة ولا مقاومة ولا تحدياً للعدو، اعتصر قلبي وأنا أفكّر في والدة ووالد هذا الشاب، الذي قد يكون أرسٍل للجهاد في سوريا على غرار سائر شباب الحزب الذين أُقحموا بعد استنهاض عصبيّتهم وغسل أدمغتهم في حربٍ ليست لهم، تحت ستار حماية المقدّسات والشيعة في القصير ومواجهة التيار التكفيري والارهاب.
أولى الشمعات التي أضأتها في مار شربل كانت على نية من فارقونا، وأوّلهم الرفاق شهداء ثورة استقلال 2005. صليّت لروح سمير وجبران وكلّ الأحباء وتمنيت أنْ يتمّ إيجاد الرابط بقضية استشهاد الرئيس الحريري لتحال قضية سمير وقضية جبران وقضيتي الى المحكمة الدولية مباشرة، كما ينصّ القرار الصادر عن الامم المتحدة.
كل شهداء 2005، أموات وأحياء، رُبطت قضيّتهم بلاهاي، إلاّ نحن الثلاثة وكأنّ قدر الصحافيين أنْ يُناضلوا في سبيل الحقيقة حتى بعد اغتيالهم. وانا أهمُّ بمغادرة الدير متّكئةً على عصاي صُعقت بسيّدة يزين صدرها صليب، (تبيّن لي من لهجتها أنهاّ سورية)، تهجُم عليّ صارخةً:
"أنا ربّيت بشار الأسد على يدَي. لا يوجد أحسن منه. كفاكِ افتراءً عليه. هو وحده الذي يحمي المسيحيين."
مددت لها يدي الاصطناعية وسألتها: "ماذا تقولين عن هذه؟ من فعلها؟ من قهر المسيحيين اللبنانيين منذ العام 1975؟ من انتهك حرمات اللبنانيين أجمعين وسرق منهم حرّيتهم على مرّ السنين، أليس بشّار ونظامُه المجرم وحلفاؤه في لبنان؟".
اشرأبّت من جديد بأعلى صوتها: "اذهبي وابحثي عمّن فجّرك".
وسط ذهول ما بعده ذهول، لم أجد ما أردّ عليها به سوى القول: "الله يُجازي كل شخص على أفعالِه وليصطفِل به وبأمثالِه".
تابعت بكلّ وقاحة: بشّار أكبر آدمي. هو من يحمينا".
عندها أجبتُها: "أتيت الى كنيستي، أتيت الى بلدي، الى عُقر داري، لتُبهدليني!"
صعدت الى السيارة ونفسي حزينة على ما فعله بنا من أقنع مسيحيين في لبنان وسوريا بأنّ نظام الأسد المجرم هو حامي الأقليات. صعدت محبطة وأنا أتساءل كيف تمكّن الوهم الذي زرعه النظام السوري من السيطرة على عقول أناس بهذا الشكل؟ لعلّ من تُفرغُ سخطها عليّ لا تدري أنّها أولى ضحايا هذا النظام.
قد تكون عائلة هذه السيدة ضحية إجرامٍ اقترفه أحد أفرقاء الحرب في سوريا، وهذا أمرٌ مُدان. ولكن أين هي تعاليم المسيح المفترض أن تحملها من تزور الكنيسة؟ هل هي في أن يقتل الشعب، وتشرد العائلات، ويعذب الأطفال وتدمر البلاد؟ وأي حماية هذه، عندما تكون مرادفة لسفك الدماء وسقوط آلاف القتلى؟
عشنا في لبنان الحرب ومآسيها، ولم يرحمنا أو يتضامن معنا كثيرون ممن غُسل دماغُهم في الدولة الجارة. ولكنْ أنْ تجرؤ هذه السيدة على التعديّ عليّ من حيث لم أكُنْ أدري جعل الأسئلة تتدافع الى ذهني. وعلى رغم كل السواد الذي يسيطر اليوم على المشهد السوري، لا يزال الأمل بربيع حقيقي لدمشق يلوح في الأفق، ولا بدّ من أن يأتي، ولو بعد حين، على يد الثوار الأحرار الحقيقيين، أولئك الذين رفضوا بطش نظام ووقفوا بوجهه دفاعاً عن الحرية والانفتاح والاعتدال وكرامة الإنسان. هؤلاء هم الثورة السورية الحقيقية التي نؤيدها ونتضامن مع رجالها ونسائها.
وتساءلت: هل يدري مُروّجو منطق حماية الأقليات في المنطقة ماذا فعلت أيديهم؟ هل يرضى الذين عانوا تماماً مما عانيْناه، بأنْ نبقى عرضةً لانتهاك كراماتنا والتعدّي على خصوصياتنا في عقر دارنا؟ من قال لهم إننا مع المتطرّفين الى أيّ جهة انتموا؟
كيف لمن أنكر تاريخه وانغمس في لعبة التحالفات الايرانية - السورية ليبلغ سلطة متوارثة أنْ يعِيَ أنّ السحرَ لا بُدّ من أنْ ينقلبَ على الساحر؟
كيف لمن حوّل براد محجّة للموارنة، وهو على علمٍ أنّ مار مارون هجر سوريا الى لبنان للبدء بنشر رسالته وممارسة ايمانه ومعتقداته بحرية، أنْ يفقه خطورة ما يفعله بمسيحيي لبنان وسوريا؟
ليست صدفةً ربما أن يعود الى الانتشار بكثافة عبر الانترنت ووسائل التواصل الحديث نصٌّ كتبَه أمين معلوف عام 2006. صدى كلماته القوية الذي ما زال يتردد قد يكون أفضل جوابٍ على ما عشته في ذلك النهار:
"يكفي أن نمرّ بنظرنا على هذه الكرة الأرضية التي أضاعت البوصلة لنلمُسَ أنّ العنفَ لا يتراجع وأنّ الهوّة تتسع بين مكوّنات البشر.
أصدقائي في لبنان، إذا كنتم ترون في لبنان موجة الحرية العارمة والتعايش، والتي كان سمير وجبران ومي ورفاقهم برهنوا عن الشجاعة في حمل رايتها، تزدهر وتنتصر، فهذا يعني أنّ كرامة الانسان ستثمر غداً عناقيد عنب في حال جيّدة".
في ذكراك يا سمير لا يسعني إلاّ أنْ أصلّي كي يصل صدى رسالة ربيع حرية التعبير والمعتقد، الذي استشهدت من أجله، الى مسامع من أصمّ آذانهم عن الحقيقة خطاب من أقنعهم بمنطق تحالف الأقليات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم