الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كيس قمامة أم ميت؟\r\n\r\n

إليان راشد
A+ A-

هل تسلّمتم يوماً جثمان قريب لكم، أو عزيز؟ هل شعرتم حينها بذلك الوجع الصامت الذي يغوص في القلب ويمزقه عند رؤية من تحبّونه يعطى لكم كأنه شيء كريه أو كيس قمامة يجب التخلص منه؟
هاكم روايتي، وهي حقيقية مئة في المئة، وأنا على يقين من أنها تتكرر كل يوم، في مستشفيات وأماكن متعددة.
***
وصل موكب سيارات العائلة والأقرباء والأصدقاء إلى ذلك المشفى القابع على جانب الطريق. حضرنا جميعاً لتسلم جثمان فقيدنا الغالي ومرافقته بالصلاة.
توجهنا إلى شبّاك الاستعلامات، حيث أرشدتنا العاملة إلى باب الطوارئ، ومنه خرجنا إلى الباحة الخارجية.
التقينا بموظف آخر دلّنا إلى درج خلفي صغير، لولبي، ولجناه نزولاً. ضيِّقاً كان ذلك الدرج، مزعجاً، ومثيراً للرهبة.
نزلنا إلى الطابق الأول، ثم إلى الثاني، ودخلنا في ممرّ معتم يشبه السرداب، ومنه وصلنا إلى باب آخر، ومنه خرجنا إلى باحة خلفية أخرى، جرداء، قبيحة، ناشفة.
كانت الشمس ضاربة وحارقة. مولّدات الكهرباء تهدر وتبصق دخانها الأسود في وجوهنا. الباب الحديد الداكن على جانب الحائط مغلق، خلفه أصوات وضجيج.
وقفنا في العراء مصطفّين، ننتظر بصمت وبعيون دامعة.
فُتح الباب ونادى أحدهم: يمكنكم الدخول.
دخلنا...
كانت الحجرة صغيرة. أمتار أربعة. لا أكثر. ولا أقلّ. على الحائط المواجه مغسلة وحنفية ماء ومرشّة ولوح حديد طويل. في الجهة المقابلة طاولة تبعثرت عليها علب وأغراض.
على الأرض شراشف مرمية.
***
كان هو هناك في وسط الغرفة، في نعشه، محمّلاً على عربة لنقل البضاعة.
كم يصعب أن أصف لكم الشعور بالإهانة التي يواجَه بها الموت، ويُعامَل بها الميت؟
وقف الموظفون أمامنا. كانوا ثلاثة، ببزاتهم البيضاء، أيديهم داخل قفازات طبية، وعلى رؤوسهم تلك القبعات السخيفة. تمتموا شيئاً من عبارات العزاء العابرة، وعلى وجوههم بدت علامات استعجال.
اقترب الكاهن وبدأ الصلاة. كنا نصلي معه بحرارة وخشوع. رنين هاتف خليوي صدح فجأةً بإحدى أغاني هذا العصر. ابتعد صاحب الهاتف قليلاً، وأجاب متحدثاً بصوته العالي الذي امتزج بهتافات وضحكات.
انتهينا من الصلاة.
وُضع الغطاء على النعش.
ثم خرجنا...
في تلك اللحظة، غمرني الحزن والأسى واليأس. وبكيت... ليس فقط على من يرقد في ذلك النعش، وهو لقي في رحمة الموت خلاصاً من عذاب لا رجاء منه. بل بكيتُ على الإنسان الذليل والمهان في بلادي، حياً وميتاً. بكيتُ على الحياة التي تفقد معناها كل يوم. بكيتُ على الكرامة التي تزول وتضمحل. بكيتُ على نفسي حين أموت.
أفي جحرٍ كهذا، سيلقي عليَّ أحبائي نظرتهم الأخيرة؟


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم