الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

في لبنان يتدنّى منسوب الأوكسيجين تدريجاً في هذا المبنى...تجربة لا يمكن ان تنساها

يارا عرجة
في لبنان يتدنّى منسوب الأوكسيجين تدريجاً في هذا المبنى...تجربة لا يمكن ان تنساها
في لبنان يتدنّى منسوب الأوكسيجين تدريجاً في هذا المبنى...تجربة لا يمكن ان تنساها
A+ A-

أنت على ارتفاع 600 متر عن سطح البحر. تلتفت يميناً، فترى الأفق الأزرق يعانق بيروت بزحمتها، فيما يحاوطك الخضار النضر وتظلّلك الجبال الشامخة يساراً. هناك، بعيداً من الضوضاء، تعمّ السكينة وتلطّف زقزقة العصافير ثقل الصمت والهدوّ. فجأة أبواق سيارة تخترق هذه السكينة، لتعيدك إلى المدنية، ويعلو صوت رجل "قرّب يا حبيبي قرّب"، تدخل معه ذلك المبنى.


في هذا المبنى يتدنّى منسوب الأوكسيجين تدريجاً. تقف في الصف. تُبرز بطاقتك الشخصية وتجيب عن بعض الأسئلة فيساورك شعور بالارتباك والحرّ. تحاول استنشاق الهواء النقي ولكأن الأوكسيجين يقلّ في أسواره. تسير. تتقدّم في الصف. تصل إلى مكان التفتيش. تختنق. تتعرّق. تتنفس بصعوبة لأنّ الجدران امتّصت الهواء. تمشي قاطعاً مسافات شاسعة، وكلّما تقدّمت في المكان ارتفع الباطون وخفّ الأوكسيجين. ها أنت تقف أمام بوابة عملاقة من الحديد. تتلعثم. ما الذي يختبئ هناك؟ "افتح يا سمسم"! تطئ قدمك ساحة مهجورة من أهلها، محاطة بجدران بيض يتأكلها العفن، وشبه نوافذ صغيرة يتدلّى منها غسيل ولِيف وملابس مهترئة... ما هي إلاّ ثوانٍ، حتى تشرّع ساحة أخرى أبوابها السوداء، فتدخل المأوى الاحترازي (جناح مخصص للاضطرابات النفسية) في سجن رومية، أو ما يعرف بالمبنى الأزرق... هناك ثمّة من يعيش بعيداً من الشمس. ثمّة من يتنفّس هواء لوّثه الإهمال والظلم. ثمّة من أنهكت أجسامهم الأيام والأشهر والسنون، وعقل لم يزِن الحياة جيّداً فأخلّ توازنه وحوسب على هذا الأساس، فحكم على النفس والجسد بالمؤبّد أو الإعدام. أمام أعين المساجين المسمّرين وراء القضبان، تدخل السجن المقابل، تأخذ مكانك، وتنتظر... تنتظر بداية العمل المسرحي "جوهر في مهبّ الريح" لزينة دكاش، كما لو كنت تنتظر لحظة الإفراج عنك والخروج إلى الحريّة. ما هي إلاّ دقائق حتى تشعر بانقطاع الأوكسيجين نهائياً في الغرفة الضيّقة، ولكأن الدقائق تتحوّل دهراً، فتشعر بثقل الزمن ينخر كلّ ما فيك.



من هو جوهر؟


أنت في وسط الغرفة الرمادية المكتظة بالحضور. ضائع وحائر. تبحث عن مكان لتتمركز به ولكن خوف المكان يردعك. تتساءل: "أهنا يعيش السجناء؟ من هو السجين الذي أجلس مكانه الآن؟ أين يمكنني أن أسند ظهري؟ ألا يتألّم هؤلاء؟" لعلّ "جوهر" الشيء أن تتآخى مع هذه الوحدة فتتقمّص وجع السجناء. هنا تعود إلى ذاتك، تستذكر رحلتك في هذه الحياة من فخر وندم. هنا لا بدّ أن تعود إلى جوهرك لتعانق عذابات هؤلاء السجناء الذين يرتقون ثقوب الحياة بالتمثيل والغناء والرقص.
"جوهر في مهبّ الريح" هو العمل المسرحي الجديد لزينة دكاش، جزء من مشروع "قصّة منسيين خلف القضبان" الذي أطلقته جمعية كثارسيس عام 2013 بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وهو يهدف إلى تحسين أوضاع شريحتين من السجناء: ذوي الأمراض النفسية الذين ارتكبوا الجرائم من جهة، والمحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة أو بالإعدام، غير القادرين على خفض عقوباتهم إلاّ بشروط تبدو تعجيزية يتيحها لهم القانون. جوهر هي أيضاً السجينة في سجن بعبدا فاطمة التي حضّتها المديرة التنفيذية لكثارسيس زينة دكاش على بدء هذا المشروع والتحضير لمسرحية "جوهر في مهبّ الريح"، العمل الثاني في سجن رومية من بعد "12 لبناني غاضب" والتي أداها سجناء رومية عام 2009. فاطمة التي تعاني من مرض نفسي، محكوم عليها بالمؤبّد، إذ تضمّن الحكم الصادر بحقها "حجز المتهمة في مأوى احترازي حتى ثبوت شفائها بقرار تصدره المحكمة". ولكن كيف يتحقق ذلك وليس ثمّة من مأوى احترازي مخصص للنساء في لبنان، والأهمّ عدم شفاء المريض النفسي؟ مسرحية "جوهر في مهبّ الريح" خشبتها هي سجن رومية، وهي تحكي قصص سجناء منسيين يعانون أمراضاً نفسية وأحكاماً (مؤبد أو إعدام) لا تقلّ فظاعةً عن ارتكاباتهم. جوهر هو فاطمة والمنسيين الذين يسرقون النور من وراء القضبان.


"كن منصفاً أيّها القانون"
دقائق قليلة ويبدأ العرض، تتكبل يداك وتتأمّل في مصيرك ومصير كلّ سجين على المسرح أي السجن. تجلس تصغي لمآسيهم وتفكر بنفسك. ماذا لو كنت أنت في رومية معهم؟ السجين لا منطق يبرّر فعلته لكن ذلك لا يجعل منه عديم الإنسانية والرحمة. يحمل السجين يوسف شنكر المحكوم عليه بالمؤبّد قضيّته وقضيّة زملائه في رومية حيث يقبع هناك منذ 25 سنة. يقف أمامك بقوّة وجرأة وثقة ليروي لك في مونولوج ما حصل معه خلال السنوات السبع الأخيرة في سجن رومية التي فصلته عن آخر دور بطولة قام به في "12 لبناني غاضب". سكون تام يعمّ الغرفة المظلمة، ضوء مسلّط على يوسف الذي ينقل بنبرة صوته ألماً معدياً وثقل واقع لا يمكن تغييره: "زوجتي تزوّجت وأنجبت طفلين، وتوفي سجينان من الـ "12 لبناني غاضب" بسبب السرطان، هنا داخل السجن". قشعريرة تلفّ جسدك عند تلفظه بهذه الكلمات، تنظر حولك، تتفقد المكان... على هذه الأرض، ووراء إحدى تلك القضبان، وافتهما المنيّة بعيداً من حرارة العائلة والاهتمام الطبّي ورأفة الإنسانية. يستمرّ شنكر "نجم رومية" في مخاطبتك وهو يشير إلى لوحة تشير إلى الدّابّة "جوهر" المقيّدة متحدّثاً عن المادة 436 التي تنصّ على تخفيف العقوبات والتي بدأ العمل بها بعد النداء الذي وجهه الـ "12 لبناني غاضب" وتقضي "باستحصال السجين على إسقاط للحقوق الشخصية من ذوي الضحية أو دفع التعويضات الشخصية ذات القيمة المرتفعة والتي يعجز السجين عن دفعها".


تلتقط أنفاسك مجدداً عندما تعلم أن مصيره ومصير الآخرين مجهول. ينسحب شنكر بلطف ليترك الساحة الضيّقة لاستعراضات غنائية ورقصة قام بها سجناء حملوا رسالة زملائهم في المبنى الأزرق، أي ذوي الأمراض النفسية، وأولئك المحكوم عليهم بالإعدام أو المؤبّد. على وقع الموسيقى والأصوات الصادحة، يرتعش جسدك وتدمع عيناك... مجدداً تحاول التنفس بصعوبة. السجناء بدوا أحراراً على المسرح، متخففين من همومهم بالرقص، محطمين القضبان منطلقين نحو السماء. المواويل الشجية وأغاني جو داسان والوصلات الراقصة من تصميم بيار خضرا، كلّها تصطحبك برفقة بعض الوثائق المصوّرة، إلى الحياة اليومية لنزلاء المأوى الاحترازي غير القادرين على اعتلاء المسرح لضرورات صحية: أمام قساوة واقعهم، تقف عاجزاً عن التعبير والتكلّم.


بعض السجناء يتناول الطعام على الأرض جالساً القرفصاء، البعض الآخر أصبح مدمناً على المخدرات بسبب إهمال أهل أو واقع مدمّر. بعض المونولوغات يظهر ظلم المواد القانونية التي تنعت ذوي الأمراض النفسية من السجناء بالمجنون أو الملبوس. فالمادة 232 من قانون العقوبات تنصّ: "من ثبت اقترافه جناية أو جنحة مقصودة (...) وقضي بعدم مسؤوليته بسبب فقدانه العقل حُجز بموجب فقرة خاصة من حكم التبرئة في مأوى احترازي (...) ويستمر الحجز إلى أن يثبت شفاء المجنون بقرار تصدره المحكمة التي قضت بالحجز". أيّ عقاب ينزل بذلك الذي يقتل الجسد مرّة من غير عمد ووعي وتُقتل روحه ألف مرّة في السجن؟ نجحت المسرحية في إبراز واقع سجن رومية والظلم الذي يلمّ بأرواح السجناء قبل أبدانهم، هم المعزولون عن العالم الخارجي التائقون لأهلهم، من لا يمتلكون المال الكافي لتخفيض عقوبتهم، من تعلّموا الصلاة وراء القضبان لأنه محكوم عليهم بالموت. أمراض تفتك بهم، نوعية الطعام وغيرها من المآسي التي توازي جريمة هذا السجين.


انتهت المسرحية، عاد السجناء إلى زنازينهم وعدت أنت إلى الحريّة. فرحة رؤية الشمس لا تسعك، تتنشق الهواء ككنز ثمين، لكأنّك الآن تعرف قيمة الأوكسيجين وقيمة الطعام الذي تتذمّر إن لم ينل إعجابك. تهرع إلى حضن عائلتك بعدما تلمّست شوق هؤلاء الأشخاص إلى ذويهم. غادرت رومية لتمضي بحياتك من جديد، لتعود وتمارس أعمالك اليومية، وهم منسيون غارقون في دوامة الروتين القاتلة يرزحون تحت الأشغال الشاقة. متى يصير السجن مكاناً لتأهيل السجناء لا لقتلهم؟!


[email protected]


twitter: @yara_arja


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم