الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٦٩ - "اشتباك" لمحمد دياب: عربة تُدعى مصر!

المصدر: "النهار"
كانّ ٦٩ - "اشتباك" لمحمد دياب: عربة تُدعى مصر!
كانّ ٦٩ - "اشتباك" لمحمد دياب: عربة تُدعى مصر!
A+ A-

"اشتباك" لمحمد دياب يعود بالمُشاهد إلى الأيام القليلة التي تلت سقوط محمد مرسي صيف ٢٠١٣، قبل تولي السيسي رئاسة مصر إثر انقلاب عسكري. تم اختياره لافتتاح قسم "نظرة ما" مساء أمس في #مهرجان_كانّ (١١ - ٢٢ الجاري)، وهو الثاني لدياب الذي سبق أن قدّم "٦٧٨" العام ٢٠١٠. تبدأ حجة الفيلم على هذا النحو: عدد من الأشخاص الموجودين في الاحتجاجات تتم لملمتهم من الشارع واعتقالهم عشوائياً، بعد اتهامهم بالانتماء إلى جماعة "الاخوان المسلمين"، بينهم صحافيان يفتتح الفيلم بهما، وهما الأكثر قرباً من قلب المخرج. في حين أنّ الشارع الأخواني يعيش غلياناً ويلجأ إلى كلّ الطرق غير السلمية للتعبير عن سخطه بعد الإطاحة بمرسي، تصبح المساحة الضيقة التي تشكّلها الشاحنة التي تعتقل كلّ مشتبه فيه أقرب إلى "ميكروكوزم" ومختبر أفكار تناقَش نصف نقاش وتقاتل بعضها نصف قتال، لينتهي كلّ شيء على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب".



 


سريعاً، سيُرمى في العربة كلٌّ من "الاخوان" والسلفيين والمؤيدين للعسكر وآخرين من المغلوب على أمرهم ولا شأن لهم بالطرفين، وشرائح من المجتمع المصري، قبل أن تسيطر فكرة أنّهم يواجهون عدواً واحداً ومصيرهم واحد. فجيمعهم، سواء كانوا ضدّ أو مع أو بين بين، ماضون بالشاحنة إلى الجهة المجهولة عينها، ما يستلزم أن يكونوا يداً واحدة في مواجهة الـ"عدو" (الذي هو في الحقيقة "أعداء")، وهو عدو يتغير في الفيلم بين دقيقة وأخرى، ويتوقف على المكان الذي ننظر منه إليه، حتى انّ العسكري الذي يقف في صفّ السلطة ويأتمر منها، يصبح في لحظة حليفاً ولا بدّ من التعاون معه. في حرّ تموز، داخل شاحنة تحمل كلّ أنواع البشر إلى الحتمية، لا أعداء أبديين ولا أصدقاء إلى الأزل، وصولاً إلى إيجاد أرضية تفاهم ولو مهزوزة بين سائر الأطراف، عملاً بمنطق "مَن نعرفهم أفضل ممن لا نعرفهم". داخل الشاحنة، حيث بؤرة ظلام وانغلاق، سيتعلّم بعضهم كيف يتعرّف إلى الآخر، من دون أن يعني هذا أن ينتصر بالضرورة لأفكاره، ومن دون أن يتراجع منسوب الكراهية لديه، وهذا هو أبرز ما يسعى الفيلم إلى تأكيده والدفاع عنه.


طبعاً، خيوط الخطاب ملموسة جداً، واضحة وصريحة. كلّ شيء يبقى في عربة الاعتقالات، عربة لا تلبث أن تتحول "ميتافور" للقوقعة المصرية وللسجن الذي بات الوطن على امتداد مساحته شبيهاً له. لا تخرج الكاميرا ثانية واحدة من خارج شاحنة "الداخلية"، إنّه خيار إخراجي متماسك ومبرّر يستطيع دياب الالتزام به إلى النهاية، وتنتج منه مَشاهد تحمل ثقلاً إيقاعياً معيناً، خصوصاً أنّنا إزاء سينما صافية ("ناتورالية")، تتفادى الموسيقى التصويرية (إلا نادراً) والمؤثرات البصرية، وتُمعن في التقاط فوضى الشارع والعنف بواقعية. إنها الواقعية المُعاد إنتاجها مع حرص معين على ضخّ لحظات دراما قوية وغير مبالغ فيها على طريقة السينما المصرية ذات التوجه الميلودرامي. إلا أنّ مشكلة فيلم دياب هي نفسها مشكلة الكثير من الأفلام السياسية التي لا تريد أن تتحدث بالمسميات السياسية، فتأخذ من تشابه الأضداد وحاجاتهم حتى البيولوجية منها بديلاً. النتيجة فعالة ومفهومة، لكنها لا تثمر خطاباً سينمائياً كبيراً.



ينطلق "اشتباك" من الانقسام السياسي الحاد في مصر ("بتاعنا أو بتاعكوا؟") بين مؤيدين للعسكر وبطشهم والواقفين مع "الأخوان" وتحفّظهم الديني ونظرتهم تجاه الإنسانية، وهو انقسام يدور على مدار ٣٦٠ درجة. بين هذا وذاك، يرسم النصّ الذي كتبه دياب وشقيقه خالد، فيلماً شديد السوداوية لا يترك حتى فتحة صغيرة يرى المرء من خلالها النور الآتي من آخر النفق. الوضع المصري بعد الـ"ربيع" أصبح شديد التعقيد ويصعب الإفتاء فيه من دون الوقوع في المهاترات، إلا أنّ الفيلم يبسّطه إلى اقصى حدّ للفوز بجمهور ليس بالضرورة خبيراً في الشأن المصري، من خلال التعامل مع مجموعة من النماذج البشرية من عمق الاجتماع المصري، فيطال من خلالها أفكاراً تذهب أبعد من جغرافيا المكان ومفاهيمه.


درجت في الفترة الأخيرة أفلامٌ تدور حوادثها ضمن وحدتي المكان والزمان، و"اشتباك" من هذه الأفلام، لا بل يمتهن الراديكالية في خياره هذا عبر تضييق الفضاء الخاص بالحكاية والالتزام برهان عدم الخروج منه، وهذه ستكون الراديكالية الوحيدة في فيلم يحاول أن يجد طريقه وسط حقل ألغام سياسية وعقائدية، تماماً كالعربة التي تحاول الوصول إلى ضفة الأمان. بهذا المعنى، "اشتباك" فيلم كلّ التوازنات السياسية والمساومات الأخلاقية والحسابات الإنسانية التي تُفضي إلى فيلم يقف على حافة كلّ شي، كوقوف المعتقلين على عتبة باب العربة، من دون التجرؤ على القفز أبعد من المسموح في الصواب السياسي الذي يعتري السينما العربية.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم