الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مواطنون بلا وجوه

رلى راشد
مواطنون بلا وجوه
مواطنون بلا وجوه
A+ A-

تُبشرنا التطورات العلميّة بمستحضر جديد من شأنه أن يقضي على فكرة الشيخوخة أو في تعبير أصح، أن يمنح الوهم بأننا كبشر استطعنا أن نقهر فكرة التقدّم في السنّ.


يشغل المستحضر المنصّات الإعلامية في باب الإكتشافات الرائدة وفي باب تجاوز أكبر هواجس البشريّة منذ وجودها عبر مدّها بما تاقت إليه عبثاً: إكسير الشباب الأزلي.
غير أن الإختراع المثير للإهتمام مثير للريبة أيضا، فهو يتراءى وإلى حد بعيد، كأنه تاج الخدع بل وأكثرها دهاء. ماذا يعني ان يستر المرء وجهه الذي حفرته التجاعيد كالأخاديد بطبقة تقلّد الجلد الطبيعي وأن تملأ ثقوب العمر وتاريخه بفعل تفاعل كيميائيّ مركبّ؟ وماذا يعني أن نضع وجهاً نضراً بلا ذاكرة على وجه عتيق كواه الأرق والوجع والإحتراق تحت نور الشمس والأعوام؟


يخيّل إلينا أن اللغة الفرنسية إستَبَقَت هذا الفتح العلمي حين استنبطت مصطلحاً تسلّل أحيانا إلى العربية منقولاً، ودلّ على قيام أحدهم بـ "تبديل جِلدِه" بمعنى تغيير طبيعته. والحال ان تلك اللعبة اللفظيّة شمَلَت التغيير الباطني العميق في سياق إشارتها إلى التبدّل الخارجي. أن يبدّل المرء جلده، يوازي تحوله إلى صنو الحرباء فينتمي إلى فصيلة الزواحف القادرة على نفض جلدها عنها وطرد لونها الإصطلاحي عن بدنها.
لكن الإنسان لم يكن مرّة لوناً فحسب وإن دغدغته فكرة الإلتفاف على هشاشته من طريق صيغ ضمنت له الفوز بجسده، تحايلاً.
دفع الإنكليزي أوسكار وايلد بهذه الفكرة إلى مستواها الفلسفي حين استلهم في روايته "بورتريه دوريان غراي" شيئاً من فاوست ومن تلك المعاهدة المُبرمة بين الإنسان وقوى الشرّ والقائمة على المتاجرة بالروح في مقابل ملذّات الأرض ومعارفها. في النص التخييلي، يرغب دوريان غراي في أن تحمل لوحة بورتريه يتوسّطها، وعوضا منه، علامات تقدّمه في السنّ وإنغماسه في الأفعال المنحلّة.


في تلك الرواية، نَوَّع وايلد على كلام سقراط في شأن الروح الكامنة في الجسد والتي تتشوّه بفعل شرور يقترفها المرء، فكتب في تحديد الجمال: "ان الجمال هو أحد أشكال العبقريّة بل ويتفوّق عليها ذلك ان الجمال لا يحتاج إلى شرح. الجمال أحد أهم حقائق العالم كمثل ضوء الشمس أو زمن الربيع أو انعكاس هذه القوقعة الفضيّة التي نسمّيها القمر، على المياه الغامقة. لا يمكن التشكيك في الجمال، ذلك انه يملك حق سيادة ربّاني".
على نحو ما، يجري الإعلان عن تطوير هذا الجلد الإصطناعي - الجلد الثاني - كأنه تمجيد لهذا الجمال العبقرّي، وفق مقاربة وايلد.
يبدو التحايل صنيعة هذه السهولة الحداثيّة التي تسوّق لاستبدال وجه اليوم بوجه الأمس. وفي حين يستعجل العلم محو شيخوخة الجلد، ثمة من يرغب في أن يسلك اللبنانيون الطريق عينه على المستوى السياسي، فيستعجلون محو ذاكرتهم. يرغب مواطنونا في تبديل وجوه ممثليهم، غير أن المسموح - على ما يتراءى - هو التغيير الخارجي فحسب.
لكثرة الهزائم السياسية التي لحقت بهم بات اللبنانيون مواطنين بلا وجوه. ها هم اليوم يطالبون باستعادتها وليس باستبدالها بخديعة تجميليّة.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم