الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

هناك في بلدية لندن... وهنا في بلدياتنا

المصدر: "النهار"
سوسن أبوظهر
هناك في بلدية لندن... وهنا في بلدياتنا
هناك في بلدية لندن... وهنا في بلدياتنا
A+ A-

هنا عاصمة وهناك عاصمة، هنا بلدية تنغلق على السكان من غير الناخبين وهناك بلدية بحجم دولة. هنا بيروت وهناك #لندن. هنا التوجس من التغيير متجذر والنظام المتآكل يتجاوز خلافات أركانه ويتكتل لحماية نفسه ومصالحه في ظل فراغ سياسي ودستوري قاتل، وهناك ديموقراطية راسخة تُحاسَب فيها الأحزاب وتُناقش البرامج ويُعطى الجميع فرصاً متكافئة.
وقت تذهب أوروبا إلى تحصين نفسها بأسوار وقيود وتُقفل أبوابها في وجه المهاجرين بعدما دعتهم إليها، تختار لندن التي قد تقرر الانسحاب من المشروع الأوروبي الشهر المقبل والانكفاء عن باقي القارة، مسلماً ابن مهاجرين رئيساً لبلديتها ليتولى زمام المنصب التنفيذي الثاني في البلاد بعد رئاسة الوزراء، وذلك في سابقة لا مثيل لها في أي عاصمة غربية كبرى.
صادق خان المولود عام 1970 هو الابن الأكبر للمهاجر الباكستاني أمان الله خان الذي انتقل إلى بريطانيا سعياً إلى حياة أفضل. هناك أنجب ثمانية أبناء أعالهم بالعمل الشاق سائق باص بمساعدة زوجته التي امتهنت الخياطة. ومن المفارقات أن تكون زوجة نجلهما البكر، سعدية أحمد، مسلمة مهاجرة مثله، ومحامية هي أيضاً، وابنة سائق باص.
بدأت مسيرة #خان السياسية عام 2005 حين انتخبه أبناء منطقة توتينغ حيث يقيم مهاجرون مسلمون ممثلاً لهم في مجلس العموم. وبعد أربع سنوات صار المسلم الأول ينضم إلى مجلس الوزراء حين تولى حقيبة النقل والمواصلات.
وهو انخرط بسن الخامسة عشرة في حزب العمال البريطاني وتخلى عن حلم دراسة الطب ليكون محامياً مختصاً في حقوق الإنسان التي يراها مقدسة تماماً كحق أي مشتبه فيه في التمثيل القانوني. وقد دفع ذلك خصومه إلى اتهامه بدعم الفكر المتطرف لمجرد توليه الدفاع عن موقوفين إسلاميين. فقيل عنه إنه متشدد لأنه ملتزم بالطقوس الدينية، مع العلم أن أصدقاءه وعارفيه يصفونه بأنه ليبرالي.
وهو ليبرالي حقاً. ولنتبين ذلك، لنعقد مقارنة صغيرة بينه ووزير الأعمال والإبداع البريطاني الحالي ساجد جاويد، وهو يحمل جذور خان نفسها. وقد كتب في صفحته الرسمية بـ"تويتر"، "من ابن سائق باص باكستاني إلى آخر، تهانينا". والرجلان في صعود سياسي يقودهما بحسب التسلسل المنطقي للهرمية البريطانية إلى رئاسة حزبيهما، جاويد عن المحافظين، وخان عن العمال، وربما إلى رئاسة الوزراء. الأول يقول عن نفسه إنه صاحب إرث مسلم على المستوى الشخصي والتزام كلي بـ"مسيحية بريطانيا" كوطن من دون تبني ديانة بعينها. بينما خان مسلم ملتزم سبق له تأدية فريضة الحج، وشديد الليبرالية في ممارسة السياسية إلى درجة تثير حفيظة المحافظين كما فعل حين صوت بالموافقة على مشروع قانون لزواج المثليين جنسياً في مجلس العموم.
وبصرف النظر عن أصوات لا تزال ترتفع محذرة من "أسلمة" بريطانيا، فإن خان وجاويد ليسا نموذجاً إسلامياً منفصلاً عن الكيان البريطاني نفسه وتاريخه وسياسته الخارجية، بدليل جذورهما الباكستانية التي تعكس العلاقة الخاصة بين المُستعمِر والمُستعمَر السابقين، تماماً كما لو كانا جزائريين في فرنسا، وإلى حد ما تركيين في ألمانيا.
متجاوزاً كل هذا الجدل، اختار خان بدء مهماته في منصبه الجديد بتوجيه رسائل من الأمل والتسامح في غير اتجاه، معتبراً أن لندن نبذت سياسات التخويف والإقصاء التي طبعت الحملة الانتخابية. واحتفل بالفوز في كنيسة أنغليكانية وكانت إطلالته الرسمية الأولى بصفته رئيس بلدية العاصمة البريطانية في مناسبة لإحياء ذكرى الضحايا اليهودية للمحرقة النازية، متكئاً على تفويض حاسم من مليون و300 ألف لندني ومتجاوزاً صراعات الأجنحة داخل حزبه والتي تمثلت في غياب زعيم "العمال" جيريمي كوربن عن حفل تنصيبه. ذلك أن خان ينتمي إلى الفريق التقليدي بينما جاء كوربن من أقصى اليسار ويحلو لكثيرين تشبيهه ببيرني ساندرز الذي أضفى نكهة على مشهد المنافسات التمهيدية على الرئاسة الأميركية.
وبعيداً جداً من #بريطانيا، احتفل مسلمون بفوز خان كأنه فتحٌ مبين للندن وانتقام متأخر من الاستعمار و"أرض الكفار". لكن فات هؤلاء أن سوء أحوال المسلمين في بلدانهم حيث الفساد والاستبداد يدفعهم إلى الهجرة إلى أرض الاستعمار نفسه، وهكذا فعل والدا خان وجاويد. وفترت الحماسة لدى البعض حين تبين لهم بعد النبش السخيف في جذور رئيس بلدية لندن الجديد أنه شيعي وليس سُنياً، فلم يعد الحدث في نظرهم "نصراً"! وانتهت الاحتفالات لدى البعض الآخر وقت اتضح لهم أن خان لا يدعو إلى مقاطعة اسرائيل، فصار "خائناً" للقضية الفلسطينية، كأن عليه هو حصراً حمل رايتها بعدما نسيها معظم السياسيين العرب!
يتلهون في القشور ويضيع المضمون. لكن حين اختار الناخبون في لندن حاكمهم الجديد، اقترعوا قبل شخصه لنهج وبرنامج وسياسات ولم ينجرفوا خلف استسهال تبني العنصرية والتخويف من الآخر وركوب موجة الإسلاموفوبيا. بدليل أن نسبة من اختاروه تتجاوز عدد كامل المسلمين في المدينة بأشواط. هؤلاء كانوا يقررون بذكاء ووعي ويعتبرون أن الاندماج ممكن والتنوع مفيد، بينما نقترع في بلداننا بمذهبنا وطائفتنا والغرائز والولاء العشائري. وليست الانتخابات البلدية في بيروت ولبنان عموماً باستثناء...
[email protected]
twitter :@SawssanAbouZahr

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم