الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

سؤال إلى وزير التربية في ذكرى 13 نيسان

الأب صلاح أبوجوده اليسوعي
A+ A-

تتجاذب ذكرى 13 نيسان، منذ تسعينات القرن الماضي، نظرتان متناقضتان إلى التجربة اللبنانية لا تخلوان كلتاهما من الواقعية، وتولّدان -بحكم تناقضهما- في نفس المواطن حيرةً وضياعًا بشأن مستقبل وطنه.


نظرة أولى تفاؤلية حذرة، تضم أنصار الخطاب السياسي الوسطي المتمسك بخيار الدولة والعيش معًا، ومحبذي ثقافة التنوع والتعددية والقيم الدينية المشتركة، والتربية على قبول الاختلاف والتحرر من الأحكام المسبقة؛ ونظرة ثانية تشاؤمية، تشمل منتقدي النظام الناتج من اتفاق الطائف الذي أدّى إلى مضاعفة تعقيد آليات الحكم وتفاقم الطائفية وازدياد الزبائنية والفساد، فضلاً عن استمرار غياب المقاييس التي تسمح بتحديد خصوصية لبنان وثقافته وهويته العربية. ويُضاف إلى ذلك سياسات الزعماء الطائفيين، وفي غالبيتهم هم أنفسهم أمراء الحرب، والتي تحول دون شفاء ذاكرة اللبنانيين من نتائج الحرب - من خلال إعاقة تطبيق العدالة وبالتالي تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية - ودون تطور النظام ومحاربة الفساد وتحييد لبنان عن أزمات المنطقة وحروبها.
يراهن أصحاب النظرة الأولى على إرادة اللبنانيين الفعلية على العيش معًا، وهي إرادة تترسخ بفضل المناطق العديدة المختلطة، والأعمال الاقتصادية التي تعزز المصالح المشتركة، ومؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية التي تضم مواطنين من جميع الطوائف، فضلاً عن عادات وتقاليد عديدة تجمع بين اللبنانيين، والاقتناعات القيمية المشتركة بينهم وأهمها الحرية والعدالة والتنوع، والمؤسسات التربوية العديدة التي تضم أيضًا لبنانيين من مختلف الطوائف، ورفض القسم الأكبر من اللبنانيين العودة إلى التقاتل.
تمثل السلطة الوسطية في إطار النظام الطائفي الميثاقي، في الوقت عينه، ضمانة استمرار هذا العيش معًا، ووسيلته الوحيدة. فإذا كان النظام الطائفي الميثاقي قد أتى نتيجة خبرات تاريخية تمتد جذورها إلى زمن الحكم العثماني والحلول الطائفية التي اعتُمدت لأزمات الجبل اللبناني، فإنه يعكس بشكل من الأشكال تركيبة المجتمع، ولا يمكن أن يعمل بانتظام ويستمر إلا في ظل سلطة وسطية. وتأتي النظرة الثقافية والتربوية الإيجابية إلى هذا الواقع لتسعى لعقلنة النظام والعيش معًا، وتحسين ظروف الحياة من خلال نشر أسس التعددية، وطرق التحرر من الأحكام المسبقة والصور المنمطة الموروثة، ومحاولة تطوير مفهوم الخير العام، بدءًا برفض الفساد وتنمية روح التضامن الفردي والجماعي واحترام الاختلاف والاستفادة من إيجابياته.
أما النظرة التشاؤمية فتقوم على ما آلت إليه الأوضاع منذ إقرار الطائف إلى اليوم، وبوجه خاص في أعقاب زمن الوصاية السورية، إذ كانت تلك الوصاية تفرض الحلول فرضًا على اللبنانيين. فلقد اتّخذت الاصطفافات الطائفية خطًا تصاعديًا إلى أن بلغت مبلغًا لم تشهد له البلاد مثيلاً منذ اندلاع الحرب في العام 1975. ورافق تلك الاصطفافات أزماتُ حكم شديدة هي أيضًا اتخذت خطًا تصاعديًا بلغ ذروته مع الفراغ الرئاسي منذ سنتين، وشبهُ انحلال لمؤسسات الدولة، وتطييف كل ما يمس بشؤون الخدمات والوظائف العامة، وارتباط شبه عضوي بصراعات المنطقة وأزماتها، ولا سيما بالحرب السورية والصراع السني - الشيعي. وبالطبع، هنالك أيضًا فضائح الفساد بالجملة، ومن أحدثها فضيحة أزمة النفايات، وشبكات الإنترنت غير الشرعية، وشبكات الدعارة.
وخلاصة القول إن الزعماء الطائفيين لم يتعلموا شيئًا من خبرات الماضي ولربما لا يريدون التعلم منها، وهم لا يزالون مسيطرين على المشهد السياسي، وقادرين في كل وقت على تسعير الخطاب الطائفي والمذهبي خدمة لمصالحهم. لذا، فعلى خلاف أصحاب النظرة التفاؤلية، يرى أصحاب النظرة التشاؤمية أن مسار الأمور يؤدي إلى تفريق اللبنانيين عمّا تبقى من أمور مشتركة بينهم، ويدخل البلد في ما يشبه حالة الموت السريري. ولا إمكان لتحسين الأوضاع من دون تحسين النظام، ولا إمكان لتحسين النظام في ظل الحروب المستمرة بين الزعامات الطائفية بأشكال مختلفة وغياب الرؤية الوطنية الجامعة عن سياساتها. وإن قُدِّر للأوضاع الراهنة أن تتغير، فجُلّ ما سيحصل هو قيام سلطة وسطية دورها الحفاظ على التوازنات الداخلية الهشة، في انتظار جولة صراع جديدة.
يبقى اللبناني إذًا حائرًا ضائعًا بين موقف تفاؤلي حذر وموقف تشاؤمي؛ وهذا بحد ذاته أمر غير سليم بل وغير طبيعي، إذ ليس من مخرج واضح للمأزق الوطني المستمر. فالنظرة التفاؤلية الحذرة بشِقَّيها السياسي المتمثل بالسلطة الوسطية، والثقافي-التربوي المتمثل بإبراز قيم التعددية والعادات والقيم المشتركة، تصطدم لا بسياسات الزعامات الطائفية المفتقرة إلى رؤية وطنية فحسب، بل بتأصل الشعور الطائفي لدى اللبنانيين، وبعدم كفايتها لمواجهة امتدادات الطوائف خارجيًا على الصعد السياسية والثقافية والدينية. وفي الواقع، يمكن أصحاب هذه النظرة أن يستفيدوا كثيرًا من إخفاقات "التعددية الثقافية" في الغرب، أقله صيغتها "الخشنة" التي نعاها منذ بضع سنوات سياسيًا وفلسفيًا العديد من القادة الأوروبيين والمفكرين الغربيين. وفي المقابل، يبقى أصحاب النظرة التشاؤمية عمومًا أسرى تشاؤمهم، مع ما يولد هذا الشعور من ميل إلى الاستقالة من الحياة العامة أو اللامبالاة تجاهها أو تفضيل الهجرة.
في سياق الكلام على هوية الأمة، يقول أرنست رينان إن الأمة روح ومبدأ روحي، وهما بالنتيجة يتكاملان ليؤلّفا أمرًا واحدًا: الأول من الماضي ويتكون من مجموعة تذكارات نفيسة، والثاني يمثل تبني هذا الإرث المشترك الواحد وتثمينه والرغبة في العيش معًا. باستثناء الرغبة في العيش معًا، ليس للبنانيين مجموعة تذكارات نفيسة أو أحداث تأسيسية تمثل إرثًا مشتركًا واحدًا يبث روحًا وطنية واحدة. بل تبقى التذكارات الوطنية – القديم منها والحديث والمعاصر- محط تفاسير متعارضة أو وهمية أو غامضة، يعبِّر عنها ميثاق غير مدون، يتحول هو أيضًا مادة خلافية وقت الأزمات. فلا عجب أن ينعكس غياب التفسير الواحد للتذكارات الوطنية خلافات حادة على تفسير أحداث الحاضر. وعلى سبيل المثال، هل حرب العام 1975 أهلية (بين يمين ويسار أو بين مسيحيين ومسلمين) أم وطنية (في وجه الميليشيات الفلسطينية)؟ هل انخراط "حزب الله" في الحرب السورية مصلحة ووطنية أم لا؟
في ظل غياب روح وطنية واحدة تسمح بتطوير مصلحة وطنية جامعة وسياسة خارجية واضحة، لن يكون هنالك وحدة وطنية. وستبقى التذكارات الوطنية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالشعور الطائفي الذي ينشأ عليه اللبنانيون، ويختلط تفسيرها بخبرات الطوائف الخاصة، ويتغذى أحيانًا كثيرة من الخطاب الديني الذي يؤنّنها في ضوء أحداث الدين التأسيسية ومعانيها، ويصبح بفضل ذلك كله سهل التوظيف من قبل المرجعيات الطائفية السياسية. فتلك المرجعيات تنصِّب نفسها حامية هوية طائفتها بمعناها الواسع، وضمانة استمراريتها.
ليس من مخرج لهذا المأزق الوطني إلا في التربية على الديموقراطية التي وحدها قادرة على إنشاء مواطنين أحرار قادرين على تحليل ما يسمعونه وانتقاده بعقلانية وموضوعية، ولا يكتفون بموقف المتلقّن الهامد. إنها التربية على الديموقراطية وحدها التي تسمح للحرية بالنمو، وبخلق إمكان نقاش وطني حيوي يؤدي إلى تفاهمات قابلة للتطور، إذ لا ترتبط بخلفيات جامدة لها طابع مقدس.
معالي الوزير،
ليس هذا بالمشروع السهل؛ فقد تقوم عليكم مرجعيات سياسية تتّهمكم بالخروج على نصوص الدستور والميثاق، لأنها تخاف من فقدان قدرتها على التحكم بالعصبية الطائفية، إذ يصبح الفرد منعتقًا من هيمنة طائفته عليه، وقادرًا على التفكير بنفسه وتكوين اقتناعاته. وقد يقوم عليكم رجال دين يتّهمونكم بخيانة الدين والخروج على أحكامه، ولكنهم بالعمق يخشون فقدان سيطرتهم على ضمائر الناس وخسارة امتيازاتهم ووجاهاتهم، ويخافون التغيير لأنه يحرر الدين نفسه من قبضتهم؛ وقد يقوم عليكم موظفون ومُربّون وإداريّون لأنهم يدينون بمراكزهم لمرجعياتهم الطائفية التي يولونها ولاءهم. ولكن، ألا يستحق خلاص لبنان تحمُّل هذه المجازفة؟


أستاذ في جامعة القديس يوسف

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم