الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"حرب" من نوع جديد في لبنان

المصدر: "النهار"
يارا عرجة
"حرب" من نوع جديد في لبنان
"حرب" من نوع جديد في لبنان
A+ A-

أوّل جريمة اقترفها الإنسان بحقّ أخيه كانت قتل قابيل لأخيه هابيل. نتيجة لذلك كان على قابيل الضياع والهيام في الأرض كما ورد بالإنجيل: "ملعونٌ أنتَ من الأرض التي فتحَت فاها لتقَبَل دمَ أخيك من يدِك. متى عمِلْتَ الأرضَ لا تعودُ تُعطيك قوّتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض". هذه حال اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، الذين هُجّروا في بقاع الأرض نتيجة الحرب الأهلية. الجميع يعتبر أنّ ما حصل بين عامي 1975 و1990 خطأ دامٍ... حلم مزعج استفاق منه المسلم والمسيحي ليدخل كلاهما في غيبوبة لا نهاية مرتقبة لها.
هي "الأمنيزيا" الجماعية، أو فقدان الذاكرة، التي جعلت حياتهما معلّقة ونفوسهما مقيّدة، تماماً كلبنان الذي ما زال حتى كتابة هذه السطور وقف التنفيذ... فقدان الذاكرة هذا غذّاه قانون العفو العام الذي أقرّ عام 1991، فلم يترك للبنانيين غير خيار النسيان. ثمّة رغبة قاتلة لدى جيل الحرب من اللبنانيين في دفن ذكرى المعارك ونكران الماضي وألسنته اللاهبة: في خضام سرد حكايا السنوات الخمس عشرة الماضية وإسدال الستارة عن بوسطة عين الرمّانة وما تلاها من تداعيات أمنية، تخرج من أفواه الآباء والأجداد كلمة "أحداث" للتستر على عبارة "الحرب الأهلية". ولا تزال وجوه هذه الحرب ترخي بظلالها على مناحٍ عدة، منها عدم إصدار كتاب التاريخ الموحّد، والذي ما زال يشكّل مادة جدل بين الأفرقاء السياسيين والمؤرخين واللبنانيين.



ماذا يعني عدم توافر كتاب تاريخ موحد؟



غياب كتاب التاريخ الموحد عن المنهاج الدراسي خير دليل على الخلاف المستمرّ بين الطبقة الحاكمة في لبنان، والتي حملت السلاح خلال الحرب الأهلية اللبنانية. ففي عام 2011، في عهد حكومة الرئيس ميقاتي، شكُّلت لجنة برئاسة الوزير نقولا فتوش من أجل إعداد كتاب التاريخ الموحّد، ولكن محاولتها باءت بالفشل لأنّ تلك الحكومة كانت تمثل حينها طرفاً سياسياً معيناً. إذ اعترض حينها فريق 14 آذار على عدم ذكر ثورة الأرز والتظاهرات ضدّ النظام السوري عام 2005. كما اعترض النائب سامي الجميل على سرد أحداث مدينة زحلة عام 1981، معتبراً أنّ زحلة كانت حينها محاصرة وأنه يجب عدم وصف ما حصل بالحادث العرضي. كما اعتبر حزب الكتائب أنّ هذه النسخة من الكتاب لا تعترف بدور الحزب كمقاومة ضدّ السوريين والفلسطينيين منذ عام 1975 حتى عام 1990، إنما اعترفت فقط بمقاومة "حزب الله" ضدّ إسرائيل. حتى كتابة هذه السطور  لم تحسم الهوية اللبنانية: "لبنان ذو وجه عربي"، هذه العبارة المبهمة المتوافرة في الدستور اللبناني تُلقّن ببغائياً للتلاميذ في كتاب التربية المدنية. ونحن كلبنانيين لا نزال نستخدم عبارات مثل "بيروت الشرقية" و"بيروت الغربية" التي حتى لو كنّا نتلفظّ بها دون وعي، تدلّ على الانقسام وانتماء الفرد وليس المجموعة، لمكانين ضمن مكان واحد. كتاب التاريخ بشموليته، يعكس الهويّة اللبنانية الموحدة، وغياب هذا الأخير، يدلّ على التشتت والتفكك الذي ما زال يفتك بالنسيج الاجتماعي اللبناني، هذا لأنّ "المجتمع هو من يصدر كتاب التاريخ وليس الدولة" بحسب الدكتور أنطوان مسرّه، عضو المجلس الدستوري، رئيس كرسي الأونيسكو للأديان للمقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف الذي يضيف في حديث لـ "النهار"، "الدولة تنظم العمل، يجب أن تأخذ وزارة التربية والمركز التربوي للبحوث والإنماء الدور في هذا المعنى من جديد، كما نحتاج إلى أن يفكر المجتمع جدياً في هذا الموضوع لتصبح العملية مفيدة". وأخيراً، عدم وجود كتاب التاريخ الموحّد هو بمثابة حرب على الذاكرة اللبنانية الجماعية، هو تعزيز النسيان، وتنمية الخوف من الماضي والآخر، هو تفضيل الفردية على الوطنية. في هذا السياق، يقول مسرّه: "ثمة حرب ضد الذاكرة ولكن الكثير من الجمعيات بدأت تخطيها عبر إنتاج أعمال رائدة جداً. وعدم وجود كتاب التاريخ هو هروب من الماضي، ولكن هذا الأمر يتطلب المزيد من البحوث من المؤرخين. وهنا تكمن الخطورة، كل التراث الضخم والعيش معاً في لبنان والسلم الأهلي ينهار خلال الأزمات".



كتاب التاريخ الموحّد هو الحلّ



كان اتفاق الطائف بجميع بنوده، بمثابة سلاح ينهي المعارك الدامية ووسيلة لا بل مرجعية لبسط السلم الأهلي على أرض الوطن. وإلى جانب البنود الأمنية والعسكرية والحكومية التي أقرّها الميثاق، نصّ هذا الأخير على ضرورة إلزام اللبنانيين بالتعليم وإصلاح هذا القطاع، إضافة إلى "إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية". من هنا، تبرز أهميّة الاتفاق على كتاب تاريخ موحّد يضمّ وجهات نظر كافّة الأحزاب السياسية والأطراف المسؤولين عن القتال خلال الحرب الأهليّة. توحيد كتاب التاريخ يساعد اللبناني في تخطي "الخوف من الآخر". تسليط الضوء على حكايا ضحايا الحرب وشهدائها وجرحاها، هو بمثابة عملية تكوين لوحة للذاكرة الجماعية اللبنانية. في هذا الإطار، يشير مسرّه إلى أنه "يجب عيش التاريخ بطريقة موحدة، يجب كتابة تاريخ اللبنانيين وليس لبنان، فقد استنزفنا تاريخ لبنان الدبلوماسي وتاريخ الحكام، حان وقت تسليط الضوء على تاريخ القتلى والضحايا". ويتحدّث مسرّه عن "عودة المكبوت في علم النفس العيادي والذي لا يمكن تخطيه إلاّ عبر التربية، أي عبر توحيد كتابة التاريخ. كلّ الأفرقاء في لبنان اكتسبوا المناعة وهم يتجنبون الفتنة ولكن الخطورة هي لدى الجيل الثالث والرابع. فمن تسبب بالحرب لن يكررها، من يفعل ذلك هم الأحفاد انتقاماً للأجداد، هذا إذا ما عمدنا إلى توظيف الذاكرة".



لمَ لم يتمّ إصدار كتاب تاريخ موحد؟



لعدم صدور كتاب التاريخ الموحد حتى اليوم سبب يتحدّث عنه مسرّه قائلاً إنّ اللجنة التي كان عضواً فيها بين عامي "1990 و2002، توصلت إلى وضع برنامج للتاريخ صدرت في الجريدة الرسمية بـ 90 صفحة، مع موافقة إجماعية من مجلس الوزراء وتأييد من كل القطاعات التربوية. ولكن عندما بوشر بالتطبيق لإصدار الكتاب، أحد الوزراء السابقين، لحجة ما لا لسبب منطقي أوقف العملية لأنّ الموضوع خطير. بمعنى أنّ إصدار كتاب موحد ينتج جيلاً جديداً من الشباب لديه مفهوم الحرية والاستقلال وهذا مرفوض من القوى الداخلية والخارجية المتعاون معها في لبنان. صحيح أنه أوقف هذا البرنامج ولكن المرسوم ما زال منشوراً في الجريدة الرسمية ولا يزال نافذاً ولم يلغَ". ويشير مسرّه إلى عوامل عدة أعاقت نشر الكتاب الموحّد الذي يشمل تفاصيل الحرب الأهلية وما يليها من أحداث حتى اليوم: "تلك العوامل ثقافية نفسية. فثمة مشكلات عدة في علم النفس التاريخي، فجميع اللبنانيين ينتظرون الباب العالي. ليس للمؤرخين بُعد في كتابة التاريخ: بعد 1943، تكلموا عن الوفاق الوطني ولبنان الكبير في كتاب التاريخ في سطرين بينما هو مرحلة تأسيسية فيها كلّ القيم اللبنانية من الوحدة والتضامن والعيش المشترك وكلّ ما يدافع عنه اللبنانيون". يؤكّد مسرّه أنّ "الخلاف ليس طائفياً ومذهبياً. بُني لبنان على المواثيق، وهي ليست اتفاقاً بين رجلين إنما هي نمط في البناء القومي للعديد من الدول في العالم، البناء ليس بالقوة والنار ولكن بالتسوية نتيجة عدم وجود منتصر. تحتاج ثقافتنا إلى تغيير، وما نفعله الآن هو إعداد المؤرخين لهذا النمط من الكتابة، فنحن بحاجة إلى مؤرخين محاسبين. كما يجب توجيه تعليم التاريخ لتفسير التاريخ. أي يجب أن أعطي التلميذ وثائق وأدعه يقرأ ليبني هو قناعته بدلاً من توجيهه".



كلّ يخشى العودة إلى حمل السلاح في ظلّ الأحداث المتتالية في لبنان ومن غرقه في بحر من الدماء كما حصل منذ 41 سنة. لا يجب الصمت ولا يجب الخوف والخجل، يجب التحدّث بصوت عال ودائماً عن تلك التجربة لنتعلّم من أخطائنا، لنثبت لأنفسنا وللآخرين أنّنا تمكنّا حقيقةً من تخطي الماضي والمضي في حياتنا. يجب أن نكتب لأنّ الكتابة علاج لكلّ داء، من خلالها نؤرّخ الماضي، نخلّد اللحظة ونضع ما في وجداننا من أحاسيس على الورق. كتاب التاريخ حاجة ماسّة لنا، فلنعد إلى مبادئنا ليعود الاستقرار إلى لبنان. فلنتكلّم ونكتب ونغني ونرقص لـ "تنذكر وما تنعاد".


[email protected]


Twitter: @yara_arja

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم