الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تانيزاكي: البراءة جَذْرُ الإنحلال

المصدر: "النهار"
رلى راشد
تانيزاكي: البراءة جَذْرُ الإنحلال
تانيزاكي: البراءة جَذْرُ الإنحلال
A+ A-

"مديح الظلّ" للياباني جانيشيرو تانيزاكي، واحدة من علامات الضوء في عمارة تأليفيّة مستحقة إتسعت لـ "الثلج الخفيف" و"حبّ الأبله" وسواها، في خضم تجربة كان مِلحُها مديح الشرق الواسع الحيلة والشرق القابل لخلق الجمال أيضاً، رغم أنف هالات الظلال المتوسّعة من حوله. ولا حرج ها هنا في أن تكون الدرب إلى تحقيق المبتغى الجمالي تمرّ بإفتتان ضروري بأيقونات الغرب الأدبيّة والشعريّة والتشكيليّة، في وسط تخريب عاطفي، وفق مستوى القراءة الأول، وفي وسط إعادة تقويم ثقافي عميقة لاستبداد الموروثات، وفق مستوى المقاربة الثاني.
والحال أن مطلع قصة تانيزاكي القصيرة "ألق قماش رثّ" الواردة ضمن "حكايات الحب" التي أصدرتها دار "ألفاغوارا" الإسبانية وبالقشتالية أخيراً، ينقّب في الإرث الشعري الفرنسيّ فنقرأ "حين شرعتُ أكتب هذه الحكاية، اعتمدتُ العنوان الموقت "إلى شحاذة صهباء"، وبينما لم يستطع أن يقنعني، بدا لي الأكثر ملاءمة. إستلهمتُ هذا العنوان من قصيدة شارل بودلير حيث يحتفي الشاعر بجمال سيدة فقيرة وهو ذكّرني بسحر الشخصية الرئيسية في القصة التي أوشك على روايتها". بعدذاك لا تتردد الحكاية الموجزة في المرور بمرجع ثقافي غربي آخر من خلال رسوم دانتي غابرييل روسيتي.
تصدر هذه المجموعة القصصية في موازاة الذكرى الخمسين لرحيل الكاتب الياباني وهي تفلش إدراكه لرزمة من الحقائق الموزّعة في مقاربات متناقضة، كما في قصته "الوشم". في كنفها لن تكفي القراءة السطحية المتمهّلة عند البعد النفساني المعقّد لشغف لا يرتوي سوى بالعذاب، ذلك ان تانيزاكي يطمح إلى ملاقاة النقد السياسي فيجعل من فكرة استعباد المرأة، في حدود نص من صفحات قليلة، توطئة مناهضة عمليّة لمحاولات كمّ الحريّة الفكريّة.
في ثلّة من إحدى عشرة قصة قصيرة من بينها "قدَمي فوميكو" التي ترجع زمنيا إلى مرحلة شباب الكاتب و"القطة" وغيرها، المحور واحد وهو الشغف المعبّر عنه في أمزجته المختلفة، وحيث يتطلّب بلوغ الجمال المشي في محاذاة طريق وعرة ومباغتة في معظم الأحيان. والحال ان الياباني لا يستحي من القول إن البراءة - وعلى نقيض ما قد نظنّ - تتراءى جذراً للإنحلال.
على إيقاع زمنه منذ نهايات القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين، إعتنق تانيزاكي وضعيّة عدم الإمتثال في سياق من إستفزاز استهواه وفي قالب من السكون اللافت الذي رصده لنصوصه. فكانت حكايته الأدبية تالياً وعلى مثال صاحبها مشغولة بالشؤون المدينية والظروف الموضوعية ومتناسية للوعاء الإجتماعي العام الذي شمل الحوادث أو الشخصيّات التي تؤثثها. وإذا كان مفهوم المداواة محورياً في نثر تانيزاكي فلأن المرض لازمة في يوميات نماذجه المتصوّرة التي لا تنفك تهجس بفكرة العلل الجسدي، وإن لم يكن ذلك سوى مجرد وهم.
أفصح تانيزاكي عن اقتناعه بأن الجمال لعبة محوراها لحظة قاتمة وأخرى مضيئة، وأصرّ على حضور الجسد ودأب يدفع بالفكرة الملموسة إلى حدود الأسئلة الوجودية. ها إنه يقول ان البقاء على الحياة ليس غاية في ذاتها وان الأهم هو نسق هذا البقاء، وها إنه يكتب "ربما كنتُ سأموت لكن اللحظة التي أعيشها هي الأبدية".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم