الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حنان الحروب... صانعة سلام بالعلم

المصدر: "النهار"
سوسن أبوظهر
حنان الحروب... صانعة سلام بالعلم
حنان الحروب... صانعة سلام بالعلم
A+ A-

هي ابنة مخيم الدهيشة الفلسطيني، ابنة طفولة لا تشبه سواها، لم يكن فيها الكثير من اللعب، بل طبَعَها كما كل الفلسطينيين الارتباط بالأرض، إذ عوًدها والدها النوم تحت أشجار الصفصاف لحمايتها من هجمات المستوطنين في قريتهم القبو غرب بيت لحم التي هُجروا منها. وبذلك أكسبها باكراً معنى الصمود وأن يكون المرء فلسطينياً.
كأبناء المخيمات الفلسطينية في الداخل والشتات، قضت حنان حامد عبدالله الحروب طفولتها بين الأزقة الضيقة والجدران الآيلة للسقوط للمنازل الفقيرة. وقبل الانتقال إلى المرحلة الجامعية، صارت زوجة، لكنها لم تتخل عن حلمها بإكمال دراستها، خصوصاً أنها كانت متفوقة في دروسها. أضف أن نشأتها علمتها ما مارسته لاحقاً في عملها، أن الفلسطيني يولد كبيراً ولا يعرف الطفولة الحقة، وأن الاحتلال يُقاوم بكل وسيلة ممكنة، بعدم التخلي عن الأحلام، وبالعلم خصوصاً، فحصلت على إجازة من جامعة القدس المفتوحة عام 2005. وشجعها زوجها، وهو أسير محرر، على الدوام ورافق تطورها.
الأحد شاهد العالم بأسره الحروب (43 عاما) بلباسها التقليدي الفلسطيني تحصل على جائزة "المعلم الأفضل" في العالم التي تمنحها مؤسسة "فاركي" غير الحكومية البريطانية. وُصفت الجائزة بأنها بمثابة "نوبل للتعليم" نظراً إلى أهميتها إذ تبارى عليها ثمانية آلاف شخص من أكثر من 140 دولة، وصُدقيتها على رغم حداثتها، إلى قيمتها المادية التي تبلغ مليون دولار. وشارك زعماء زمنيون وروحيون، عبر الفيديو، في الإشادة بمسيرة خطتها امرأة شجاعة طورت أسلوباً غير تقليدي في تحسين أداء التلاميذ في ظل ظروف الاحتلال والحصار ومشاهد العنف اليومي، انطلاقاً من تجربة شخصية مريرة عاشتها.
رفعت الحروب التي تحمل كنية تتناقض مع مبادئها وأسلوب عملها، شارة النصر، وقالت بعد إعلان فوزها في دبي :"أبعثُ برسالة إلى المُدرسين في فلسطين، إننا نعيش في ظروف استثنائية في ظل الاحتلال. نعيش العنف الذي يحاصرنا ويتسرب إلى زوايا العملية التعليمية كافة. ومهمتنا شديدة التعقيد لنخلص طلابنا من العنف. نرى المعاناة يومياً في عيون طلابنا ومدرسينا. معاناة عند حواجز الاحتلال تنتقل إلى الصف والمدرسة عنفاً".
ومن المقارقات أن المسؤولين الفلسطينيين الذين تباروا في الإشادة بالحروب، لم يبذلوا الكثير لتحسين ظروف عمل زملائها. فعشية فوزها، تدخل الرئيس محمود عباس متوسطاً لإنهاء إضراب لـ40 ألف معلم في الضفة الغربية كان دخل أسبوعه الرابع وعطَل الدراسة في 1600 مدرسة حكومية في ما عُد الامتناع عن العمل الأكبر والأطول منذ نشأة السلطة الفلسطينية، وقد فضح هشاشتها المالية والمؤسساتية وعُمق الانقسام مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي اتُهمت بالتدخل لتسييس مطالب المعلمين. ففي حين يغرق الحكم الفلسطيني بشبهات الإثراء والفساد، لم يحصل المعلمون منذ سنوات إلا على وعود بعشرات الشيقل أو بضعة دولارات.
الأحد عاد المُدرسون إلى العمل وحصدت واحدة منهم تعمل في مثل ظروفهم الجائزة-الحلم. لم يطلبوا أكثر من الحياة الكريمة وتنفيذ اتفاق موقعٍ مع الحكومة عام 2013 لا يزال حبراً على ورق وينص على زيادة الرواتب وتعديل قانون التقاعد ودفع مخصصات غلاء المعيشة وتوفير التعليم المجاني لأبنائهم في الجامعات.
الحروب مثلهم لا تملك رفاهية أن يكون المرء مُعلماً في ألمانيا أو اليابان، هناك يحظى بالتقدير والاحترام وتتوفر له كل سبل العطاء والابتكار. وهنا في فلسطين تضيع طاقته لهثاً وراء لقمة العيش وهرباً من رصاصة محتل وقلقاً على قريب جريج أو أسير. لكنها رفضت الاستسلام لواقع قاسٍ. ففي نظرها المعلم مربٍ وفنان يحرر الخيالات من العنف ويحض على التفكير وبناء الأخلاقيات لقيام عالم أكثر عدلاً، إنه قوة التغيير المجتمعية الأولى، على ما قالت الأحد أمام جمهور صفق لها طويلاً. وهي لم تختبر تلك القناعة في مراكز بحثية عالمية، بل استنبطتها من أرض الواقع، أرض فلسطين، وبالممارسة مع أولادها وتلاميذها، وكلهم مصدر إلهام لها.


نقطة التحول
لنعد إلى البدايات، ونتعرف عليها أكثر. فقد قصد موقع "القدس" الالكتروني مدرسة بنات الدهيشة التابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم "الأونروا" التي التحقت بها الحروب عام 1978 وبقيت فيها حتى الصف التاسع، قبل انتقالها إلى مدرسة بنات بيت لحم الثانوية حيث حصلت على شهادة الثانوية العامة العلمية بمعدل مرتفع، على رغم من قسوة ظروفها المعيشية وتحملها المسؤولية العائلية باكراً بعد وفاة والدتها.
ويذكر المدرس يوسف خليل عدوي كونها مجتهدة وذات حس إنساني عال منذ صغرها، إذ كانت "تهرع لمساعدة الآخرين والمحتاجين وسباقة للانخراط في العمل التطوعي والابتكار".
وبعد زواجها، انتقلت إلى رام الله. وعقب حيازتها إجازتها الجامعية تنقلت بين مدارس عدة حتى استقرت معلمة للصف الثاني ابتدائي في مدرسة سميحة خليل الرسمية في البيرة.
وفي أحد أيام الانتفاضة الثانية، كان زوجها وأولادها عائدين إلى المنزل، فشاهد الأبناء الأب يسقط أمامهم جريحاً برصاص جنود اسرائيليين. تعافى الوالد وبقيت الندوب في نفوسهم، فتراجع أداؤهم الدراسي. ففكرت الأم في وسيلة ترمم ما تصدع لدى أولادها وتمحي كوابيسهم الليلية، فمزجت اللعب بالتعليم.
وحين نجحت التجربة، قررت إخراجها من جدران المنزل إلى فضاء المدرسة. ومع الوقت، طورت الحروب أساليبها وجمعتها في كتاب حمل عنوان "نلعب ونتعلم"، وهو بمثابة دليل عملي لمن أراد الاقتداء به من المدرسين في فلسطين وخارجها. وأقامت معرضاً لألعاب ووسائل تعليمية وتربوية علاجية في حقول علمية كالرياضيات وأدبية كاللغة العربية، مستخدمة مواد مُدورة أو قابلة للتدوير في ظل قلة الموارد والإمكانات.
في البداية كان اللعب وسيلة للتعلم وتجاوز صدمات العيش في ظل الاحتلال، ثم صار أداة لنشر ثقافة السلام وممارسة التعليم وتلقيه تحت شعار "لا للعنف". وتحولت تجربة الحروب، بعدما وثقتها وشرحتها بالصور والتفاصيل، أسلوباً تربوياً مسجلاً باسمها يتدرب المعلمون في الضفة الغربية عليه.
غير أن الحلم لا ينتهي هنا، إنها نقطة البداية. فالمليون دولار لن تُنفق على الرفاهية الشخصية، بل ستذهب إلى تطوير مشاريع تربوية جديدة وتوفير منح دراسية وجامعية. لا وقت للراحة لدى حنان الحروب وزوجها وأبنائها، فهم يقاومون الاحتلال بالعلم وصُنع السلام.


[email protected]
twitter :@SawssanAbouZahr


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم