الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مظلومية عربية وسنية غير مسبوقة

طلال خوجة
A+ A-

في أعقاب انتخابات البرلمان المصري في 2012 والتي حقق فيها الإسلاميون 66 في المئة من الأصوات دب الذعر في مفاصل المبتهجين بـ"الربيع العربي" الذي انزل عشرات الملايين الى الساحات من اجل الكرامة والخبز والحرية.


كان ذعرا مبررا نتيجة الإرتياب من القوة الأساسية المنظمة والتي تستمطر دعما من السماء وبعض زوايا الارض. وقد استفاد الإسلاميون من تشجيع السلطات للجمعيات الدينية، كما من المظلومية نتيجة القمع والإستبداد، مستثمرين في الضحية والجلاد معا.
جرى ذلك في مرحلة من التراجعات والخيبات وانحسار لقوى اليسار وتماهي بعض القوى الليبرالية مع السلطات وانكفاء بعضها الآخر، وقد بثّت الثورة الإيرانية (التي أطبق لاحقا مكونها الإسلامي على كل المكونات الأخرى) روحا جديدة في الأحزاب الإسلامية العربية بعد تضعضها إبان صعود القومية الناصرية ونسخها الأكثر تشوها في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
وبعد سنوات ارتفع المنسوب الجهادي، خصوصا مع "النيو قاعدة- داعش" وشبيهاتها إلى مستويات خيالية، محولا نظرية إدارة التوحش لإبي بكر ناجي الى إدارة للوحشية والهمجية في المناطق التي تساقطت في العراق وسوريا، والعمل لزرع الفتنة والرعب في كل مكان يمكن أن تطوله أذرع مناصريه وغيرهم من "الجهاديين العصريين".
فبرغم استبطان الجهاديين مقاومة المفاهيم والتداعيات الإجتماعية للحداثة ومواجهتها بمفاهيم الجاهلية، وإن اعتمدت على آيات انتزعت من متنها وسياقها وتوقيتها، فإنهم يبدعون في استعمال وسائل التكنولوجيا والإنترنت لبث الدعاية وصور القتل والتشويه وأنواعه والمستلهم في معظمه من أفلام هوليوود التي تمجد العنف.
هو بالتأكيد يحمل خلطة من الأمل بحياة أفضل تؤمنها "الخلافة" والإحباط المتصاعد على وقع مظلومية عربية وسنية وشعبية غير مسبوقة، خصوصا بعد الثورة الإيرانية التي أنشأت دولة دينية واستخدمت المكون المذهبي الشيعي محوّلة الضحية جلادأ مدججا بالسلاح كما بالإيديولوجيا الجهادية.
هده المظلومية تتغذى أيضا من:
1 - أنظمة الإستبداد التي مارست القمع والإختزال تحت ستارالتنمية ومواجهة إسرائيل، وبعضها كالنظامين البعثيين في سوريا والعراق مارس قمعا رهيبا، بدا معه وكأن هذين النظامين يحتلان البلدين. وقد فشلت هذه الأنظمة في الإنماء والتحرير معا، كما فشلت في تعزيز المواطنة وعمقت الإنقسامات الأهلية والقبلية رغم ادعاءاتها العلمانية الجوفاء.
2 - ازدياد الأزمات الإقتصادية والإجتماعية وارتفاع معدلات البطالة وتراجع التعليم وتصاعد مذهل في نسبة الفقر والبؤس، خصوصا مع إدارة التوحش الرأسمالي في العالم من قبل نيو ليبرالية اقتصادية معولمة.
3 - استمرار الإحتلال والإرهاب الإسرائيليين في فلسطين تحت بصر وأعين العالم "المتقدم "ومعظمه، إما منكفئ أوداعم للإحتلال الداعي علنا لدولة يهودية الهوية.
4 - الحصار المميت والجائر الدي فرضته الولايات المتحدة على العراق وشعبه منذ تحرير الكويت ومن ثم احتلاله في 2003 وتفكيك جيشه ودولته ومقوماته وتركه لقمة سائغة للشره الإيراني وللصراع المذهبي.
5 - موقف المجتمع الدولي المتأرجح من الإنتفاضات العربية، خصوصا من الإنتفاضة السورية، حيث دعمت روسيا القمع العاري للمنتفضين السلميين والذي مارسته أقلية حاكمة مستبدة مدعومة من الجمهورية الإسلامية المتعطشة للهيمنة والتمدد داخل الجسم العربي الواهن، في مقابل تردد وارتباك ومن ثم تواطؤ الغرب والولايات المتحدة. وهذا ما شكل مفصلا في تدحرج وضع المعارضة السياسية و"الجيش الحر" في مقابل صعود التيارات الإسلإمية المتشددة وهبوب العاصفة الداعشية وتحول سوريا إلى ملعب جيوبوليتيكي كبير يتبارى فيه اللاعبون من جميع الأوزان.
6 - تحوّل الهوية الطائفية وحتى المذهبية إلى هوية سياسية وصعود لغة الأقليات وتراجع اللغة الوطنية والعروبية الجامعة ووقوع العرب بين فكّي مثلث التماسيح إسرائيل وإيران وتركيا، كما بين الزوايا الأربع لمربع الإرهاب، إرهاب الضفتين السنية والشيعية، وإرهاب الاستبداد وإلإرهاب الدولي.
طبعا لن ننتظر "يقظة الغرب" وتحميل المسؤولية للآخرين فقط، لأنّنا مسؤولون عن مصائرنا ولان الأثمان الرئيسية يدفعها العرب ولأن القتلة من كل الضفاف يقتلوننا أو يقتلون بإسمنا ولأن شعوبنا التي انتفضت سلميا وحضاريا تسرح بينها الوحوش الضارية.
إنّ المواجهة العربية المتصاعدة للتمدد والعدوانية الإيرانية في ظل الإندفاعة الروسية غير المسبوقة والمحاباة الأميركية لإيران خصوصا مع الإتفاق النووي، كما لمواجهة "داعش" ودعم المعارضة السورية تقوم بها الدول الخليجية بقيادة السعودية، ربما لأن النار وصلت لأطرافها، وعلى الدول العربية الأخرى المنكفئة على أزماتها أن تلتحق بهذه المواجهة وخصوصا مصر والجزائر، لأن رابطة العروبة رغم ضعفها وتكاثر تناقضاتها هي في صميم المواجهة مع التطرف والهيمنة على أنواعها في آن واحد.
وهذا يشكل مفارقة، ذلك أن الشعوب التي انتفضت للتغيير في مواجهة أنظمة القتل والإستبداد لم تتطلع إلى النموذج الخليجي صاحب الواقع والمسار الخاص مثالا. لكنه رغم حساسية معينة من الديموقراطية والتعدد فإن تطوره السياسي يرتبط بشعوبه وليس بالحراك المذهبي الذي تعمل لتأجيجه وتأبيده في المنطقة القوى الأكثر تطرفا في إيران، علما أن الفقر والبؤس والجهل والفساد هي من الأسباب التي أدت للإنتفاضات إلى جانب الكرامة والحرية، وهي العناوين ذاتها التي تغذي العنف والتطرف مع انسداد آفاق التغيير.
هناك مسألة أخرى فرغم إدراكنا للأسباب الموضوعية التي أدت لارتفاع منسوب التطرف، فإننا معنيون بالتصدي لكل الذرائع والتفسيرات والإسقاطات التي تغذي الإسلاموفوبيا وصراع الحضارات، ما يستدعي إعادة النظر في مقاربة قضايا الفقه والحديث والتأويل والمرأة والحداثة عموما، بما يتناسب مع مفاهيم العصر الحديث وقضاياه المعقدة والمتشابكة وبما ينزع من أيدي المتشددين من كل الضفاف السلاح الإيديولوجي.
تقع هذه المهمة بالطبع على عاتق النخب الفكرية والمدنية والسياسية والدينية المتنورة، وتتطلب جرأة ربما تعادل نهضة ثانية مع كل تبعاتها، ويجب أن تكون رصينة وعلمية وهادئة، كي لا تخلق انشطارات جديدة. لذا نحذر من مغبة تقسيم الناس بين إسلاميين وغير إسلاميين، على قاعدة مفاهيم متلبسة للإرهاب وهي مفاهيم بعضها مغرض وبعضها مرتجل نتيجة العاصفة الداعشية الهوجاء.


كاتب لبناني

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم