الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ديكتاتور في الحكم وديكتاتور في الثقافة

المصدر: النهار
رلى راشد
ديكتاتور في الحكم وديكتاتور في الثقافة
ديكتاتور في الحكم وديكتاتور في الثقافة
A+ A-

مئة وثمانية عشر عاما على إصدار إميل زولا رسالته الإحتجاجية وعريضته الإستنكارية إزاء اقترافات السلطة وتَسيّب القضاء والتي عنونها "أتّهم"، متصدّرة صحيفة "لورور" (أي "الفجر")، في كانون الثاني 1898، على خلفية الجلبة التي أحدثها إتهام ضابط المدفعيّة الفرنسي ألفريد دريفوس بالخيانة جزافا، والتي ستعرف إختزالا بـ "قضية دريفوس".


لأكثر من سبب، شكّلت "أتّهم" رسالة على فرادة في تاريخ الأدب الجدالي في القرن التاسع عشر، لاسيما أنها تبدّت كالقرينة الماديّة الإستهلالية على اندفاع كاتب مكرّس بهوية زولا إلى الإرتقاء بمسألة غير معترف بوجودها، إلى قضية مسموعة، إلى قضية رأي عام، بل وقضية صالحة لكي تخضع لمحكمة الشعب.
كانت "أتّهم" حركة جريئة وذات نبرة جازمة وعالية السقف أطلقها مؤلّف معروف آمن أن الحقيقة والعدالة وفي سيادتهما، قادرتان وحدهما على صيانة عظمة الأمم. وكانت "أتهم" قبل أكثر من قرن ونحو من العقدين، صرخة مدويّة استحالت مثالا على موقف المُثقف المعترض على الإنحراف في أداء السلطة وإن تمثّلت هذه السلطة بأعلى هرمها، أي برئيس الجمهورية.


في زمننا الراهن حيث تكثر العرائض التي يوقعها المثقفون ويقلّ التزام هؤلاء بمبدأ الحريّة وبضرورة أن يلعبوا دورا في تعليم استخدامات هذه الحرية تحديدا، عوضا من الإكتفاء بالتمسك بها مفهوما بلا جذور وبلا مسوّغات تحميه، يذكّرنا إميل زولا في نصه حيث توجّه إلى الرئيس الفرنسي إمانويل فور، أن من واجب الصحافي والكاتب أحيانا، عدم مراعاة اللياقات الرسميّة، وأن التوجه إلى رأس الدولة مباشرة ومن دون "وضع قفّازين" يصير، في بعض الحالات الحرجة وعند المفاصل المحورية، واجبا أكيداً وشرفا لا يضاهيه شرف آخر.
حذّر زولا في مقاله من تبعات "قضية دريفوس" التي ستلطّخ بالوحل إسم الرئيس وعهده ولفت إلى أن "المسألة إنتهت" وأن فرنسا "ستحملُ هذه الوساخة على خدّها، سيكتب التاريخ أنه وإبان رئاستك، كان اقتراف هذه الجريمة الإجتماعية مُمكنا. ولأنه جرى التجرؤ، سأجرؤ أنا أيضا. سأقول الحقيقة، ذلك أني وعدتُ بقولها، في حال لم تفعل العدالة ذلك على نحو كامل وشامل، العدالة التي يجري إلتماسها على نحو منتظم".
يعدّ "أتهم" عن حقّ وشيء من التسرّع والإغفال أيضا ربما، أول مداخلة لمثقّف فرنسي في المجال العام، وربما يكون فولتير كحال مُكتملة العناصر في الإعتراض والإلتزام بالمساواة والتحفيز الثقافي، وكسَلَف زولا، تعرّض لبعض التهميش في هذا المجال. غير انه وبغضّ النظر عن الحيثية الكرونولوجية التي قد لا تجعل زولا السبّاق وباكورة المثقفين الخارجين من المجال الخاص الثقافي البحت إلى المجال السياسي العام، لا يمكن التغاضي عن أن الفرنسي زولا في دورَيهِ صحافيا وكاتبا، أتى ومن خلال مبادرته، بالنموذج الإيجابي على ما تعنيه قدرة الكاتب على كسر التحالف الضمني القائم بين بعض السلطة وبعض المثقفين، وعلى إحداث شقوق في ميثاق صمت مريب بين السلطويين في الحكم من جهة والسلطويين في المجال الثقافي، من جهة ثانية.
تقدّم "أتّهم" كالنص الداني من المحاججة القانونية ووصفه زولا بنفسه، وفي متنه، بالمديد ذلك انه لم يقتصِد في الكلمات بغية إيصال مبتغاه. كان الدليل على إمكان الإتهام الفردي لسلطة جماعيّة.


شكل "أتّهم" اللحظة التصويبيّة في مسار قضائي سار في الوجهة الخاطئة، فكتب زولا صوب نهايته "ليس لي سوى شغف وحيد وهو النور، بإسم الإنسانية التي عانَت كثيرا ولها الحق في السعادة".
يقول المقال المفتوح على احتمال الفشل أن الفرد المُحِقّ أكثر جبروتا من المجموعة الظالمة.



[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم