الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

روتردام: جولة في أروقة صرح السينما المستقلة!

روتردام - ه. ح
روتردام: جولة في أروقة صرح السينما المستقلة!
روتردام: جولة في أروقة صرح السينما المستقلة!
A+ A-

مع أكثر من 200 فيلم طويل عرضها مهرجان روتردام السينمائي في دورته الـ45 خلال 12 يوماً، يمكن القول ان الداخل الى هذا الصرح المخصص للسينما المستقلة مفقودٌ والخارج منه مولود. حتى الناقد الصحافي الذي يكرّس معظم وقته متنقلاً من صالة الى أخرى، يحتاج الى الكثير من الجهد ليضع يده على الأفلام القيمة.


منذ وصولنا الى مقر "دو دولن" (في ثالث يوم لانطلاق العروض) حيث صخب المهرجان وضيوفه، وانخراطنا السريع في أجواء التظاهرة السينمائية الأبرز في هولندا، بدا واضحاً ان انتشال الجواهر النادرة أشبه بالبحث عن ابرة في كومة قش. فهناك عدد كبير من العناوين ذات الاتجاهات المتنوعة، وهذا العدد يورّط المرء في ساعات طويلة من المُشاهدة تكون أحياناً بلا جدوى - أو لنقل بلا متعة، ذلك ان ما نراه على الشاشة يمنح الانطباع بأنه لم يُغربل. أياً يكن، فالمُشاهدة هي الفعل الوحيد الذي يمكن اتمامه في مدينة تنخفض فيها درجات الحرارة لتقارب الصفر في هذه الفترة من السنة. داخل الصالات، الخيارات كثيرة ولا يعرف الواحد منا علام يستند للركون الى هذا الفيلم بدلاً من ذاك. تتعقب الأجندة الشخصية الحدس، إن لم تكن الأهواء أو معلومة وردت الى الأذن. الخيار يصيب أو يخيب.
تسلم مدير جديد، بيرو بيير، المهرجان، اضفى عليه لمسة جديدة أراد الرجل وضعها في أماكن عدة شملت حتى "الليفتينغ" الذي خضع له "النمر"، رمز "روتردام". الرجل متحمس جداً للأفلام واللقاءات، تلتقيه في كلّ مكان، يشارك في الندوات ويقدّم بعض الأفلام بنفسه. يتحدث عنها بشغف لا مثيل له، وإن كان بعضها لا يستحق كلّ هذا التورط جسداً ولفظاً. لكن بيير يشعر بتلك الحاجة الى صون المولود الذي دفعه الى هنا، هو وفريقه، على أن تنتهي مهمته فور وضعه في حضن المتفرجين.
نتوقف قليلاً عند الفيلم الفائز بالجائزة الاولى، جائزة "هيفوس تايغر" التي تبلغ قيمتها 40 ألف دولار. انه "أحلام الراديو" لباباك جلالي، المخرج ايراني الأصل والفيلم أميركي الهوية، تجري حوادثه هناك خلف الأطلسي، وعرض في روتردام للمرة الأولى عالمياً. كوميديا خفيفة (مملة بعض الشيء)، عن ايراني يطمح الى جمع فريقي "ميتاليكا" وفرقة روك أفغانية تمتلك شهرة معينة في بلادها. هذا ثاني فيلم يخرجه جلالي بعد فيلم أول اكتشفناه في مهرجان لوكارنو. تجري الحوادث على مدار يوم كامل داخل جدران محطة اذاعية ناطقة باللغة الايرانية في سان فرانسيسكو. يستغل المخرج موضوع الموسيقى ليتطرق الى قضايا أخرى، كالهجرة والثقافة والاندماج. هناك "نهفات" عديدة في الفيلم. يجول النص بين الشخصيات الكثيرة التي تُطرح على بساط البحث، إحداها كاتب أغانٍ شهير يدعى محسن ممجو، الملقب بـ"بوب ديلان الايراني"، ويضطلع هنا بدور مدير البرامج الذي يناضل من أجل اعلاء شأن المحطة. الفيلم ينطوي على الكثير من المواقف المتكررة، ينقذه في الأخير ظهور لارس أولريش من فرقة "ميتاليكا"، وهو يزور المحطة المذكورة.
بعيداً من المسابقة الرسمية، أتاح المهرجان الذي استقطب هذه السنة 305 آلاف من المشاهدين، فرصة العودة الى أفلام فاتتنا مشاهدتها في أماكن أخرى، أو فرصة اعادة مشاهدتها. هكذا، في احدى الليالي الهولندية الباردة، حلّت احدى الصالات ملاذاً لآخر أعمال المخرج الفرنسي فيليب غاريل، "ظل امرأة"، الذي سبق أن شاهدناه في مهرجان كانّ في ظروف كانّ الاعتيادية المعروفة. هذا فيلم يتمسّك بنبرة السينما الفرنسية المنبثقة من رحم "الموجة الجديدة"، التي يُعتبر غاريل آخر المتابعين لإرثها. مرة اخرى، نحن أمام حكاية حبّ وإنفصال وتجاذب وغيرة وشوق، وكلّ الأشياء التي يمكن صنع آلاف الأفلام عنها. ولكن كلّ تلك التفاصيل يعرف غاريل كيف يوظفها في اطار سينما الحميميات، سينما الغرفة المطلة على شارع صغير.
تدور الحوادث على بيار ومانون. هو مخرج وهي تساعده وتؤمن بحلمه على رغم فشله وعدم قدرته على صناعة الأفلام. في أحد الأيام، يتعرف بيار إلى اليزابيت، يقيم معها علاقة جسدية، فتتعمق العلاقة بينهما. لكن اليزابيت ليست سوى "دمية" يحركها بيار لإشباع رغباته الجنسية وأهوائه الذكورية. في الفترة ذاتها، يكتشف مخرجنا البائس أن لدى مانون عشيقاً. تتأزم الأمور بينهما لتؤدي الى الانفصال. ولكن لا شيء يدوم في الأفلام الفرنسية، لا الحبّ نهائي ولا مشاعر العداء. الممثلة كلوتيلد كورو التي اضطلعت بدور مانون حضرت النقاش بعد العرض، وأخبرت الجمهور بكلمات واضحة وصريحة علاقتها بالمخرج، فعلمنا من جملة ما علمناه أن غاريل لا يكرر اللقطة، يصوّر مرة واحدة يتيمة. يتأتى هذا النمط في العمل من ايمانه العميق بأن السحر الذي يبحث عنه لا يمكن الفوز به الا في المرة الاولى الذي يقف فيها الممثل أمام الكاميرا. طبعاً، هذا يتطلب قدراً عالياً من التركيز سواء من الممثلين أو طاقم التصوير. وكشفت كورو في هذا السياق ان غاريل يستثمر ثمانية أشهر من التمارين مع الممثلين قبل البدء في التقاط المَشاهد.
في خطوة نادرة، عرض المهرجان حلقتين من مسلسل "بارون أسود" الفرنسي. شخصياً، لستُ من هواة المسلسلات وما كنت لأذهب لمشاهدته لولا انه يحمل توقيع المخرج اللبناني زياد دويري الذي اختاره المنتجون بعدما شاهدوا له "الهجوم" (2013)، فتكرس لديهم اعتقاد مفاده أنه إذا كان يفهم تعقيدات الصراع العربي - الاسرائيلي، فهذا يخوّله فهم خبايا السياسة الفرنسية التي يحرص المسلسل على تفكيك بعض جوانبها من خلال اقتحام الكواليس حيث تُصنع القرارات. بدأ عرض المسلسل مساء أمس على القناة الفرنسية المشفّرة، "كانال بلوس". أسماء لامعة في طاقم التمثيل: كاد ميراد، نيلز أرستروب، آنّا موغلاليس.
يتعقب المسلسل المؤلف من ثماني حلقات التطورات السياسية التي تطرأ على حياة فيليب ريكفارت (ميراد)، نائب في البرلمان الفرنسي وعمدة دنكرك. اشتراكي يتحدر من أصول عمّالية متواضعة، بيد انه ينتهج أساليب فعّالة ولكن مشكوكاً في "نظافتها". بإختصار، الغاية عنده تبرر الوسيلة. بعد دعمه المرشّح فرنسيس لوجييه (أرستروب) وفوز الأخير في انتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية، يتخلص منه لوجييه ويرميه كورقة "كلينيكس" مستعملة، خوفاً على مسيرته السياسية. لكن ريكفارت ينجح في الولادة من رماده، ويخطط للعودة الى الحياة السياسة مهما كلف الأمر، ولو تطلب منه أن يتخلى عن مبادئه ليتحول شخصاً انتهازياً لا يقيم وزناً للصداقات والتحالفات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم