الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

الوجه الحقيقي لـ"الطائف": دولة برأسين وجيشين

المصدر: "النهار"
نواف كبارة- أستاذ جامعي
الوجه الحقيقي لـ"الطائف": دولة برأسين وجيشين
الوجه الحقيقي لـ"الطائف": دولة برأسين وجيشين
A+ A-

بغض النظر عن كل ما جاء من اصلاحات دستورية في اتفاق الطائف والتي اعتبرها كثيرون خطوة نوعية في اتجاه تحديث الحياة السياسية في لبنان ونقل المجتمع اللبناني الى مرحلة المواطنة وتجاوز الطائفية، فإن الواقع الحقيقي للاتفاق هو انه انشأ سلطة تنفيذية برأسين ودولة لبنانية بجيشين.


فبعد سحب صلاحيات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في دستور ما قبل الطائف منه وتحويلها الى مجلس الوزراء مجتمعاً، كان لا بد من اعطاء جائزة ترضية للطائفة التي يُنتخب منها رئيس الجمهورية الا وهي الطائفة المارونية. قامت هذه الجائزة على اعطاء رئيس الجمهورية الحق بحضور وترؤّس جلسات مجلس الوزراء متى شاء، وكذلك حقه بالاطلاع على جدول اعمال جلسات مجلس الوزراء مما يعني عملياً حق الرئيس بترؤّس كل جلسات مجلس الوزراء وتحديد مسار النقاشات فيها (عند ترؤّس الجلسات) ومشاركة رئيس مجلس الوزراء في وضع جدول اعمال كل جلسات المجلس.
إن النتيجة الطبيعية لهذا التداخل في الصلاحيات هو ان السلطة التنفيذية قد اصبحت عملياً برأسين يتوقف مصير عمل الحكومة على مدى التوافق او عدم التوافق بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة في ادارة شؤون الدولة. لقد اعطى هذا الواقع الدستوري سلطة الوصاية السورية، وبعد تهميشها للقوى المسيحية الحقيقية (التيار العوني والقوات اللبنانية) منذ اوائل التسعينات، القدرة على استغلال هذا التداخل بين الموقعين من اجل الحصول على اكبر قدر من التنازل من الرئاستين.



اما اليوم، وبعد انسحاب سوريا من لبنان والمطالبة بانتخاب رئيس مسيحي قوي التمثيل داخل طائفته، فإن هذا يعني عملياً انه سيكون هناك استنفار دائم داخل الطائفة السنية لكي يكون رئيس الحكومة الاقوى تمثيلاً داخل طائفته في مواجهة رئيس الجمهورية القوي والثابت في موقعه لمدة ست سنوات. الى جانب ذلك سيقوم رئيس الجمهورية بالتدخل في كل شاردة وواردة في عمل السلطة التنفيذية بحجة استعادة حقوق المسيحيين وتحسين شروط مشاركتهم في السلطة مما سيدفع الى بروز توترات دائمة في عمل السلطة.
من طرفٍ آخر، خرجت الطائفة الشيعية عملياً من دون تحقيق تغيير ايجابي حقيقي في موقعها في السلطة نتيجة لاتفاق الطائف. فهذه الطائفة كانت الميليشيات الخارجة من صلبها (والمتحالفة مع ايران وسوريا) القوى المقاتلة الاساسية لاسرائيل والميليشيات المسيحية في فترة الثمانينات مما ساهم محلياً بالوصول الى اتفاق الطائف. الا ان خسارة ايران امام العراق عام 1988 وبداية انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 قد اضعفتا كلا من سوريا وايران وحدتا من قدرتهما على فرض ارادتهما على المفاوضات الآيلة الى اتفاق الطائف.



لقد حصلت الطائفة السنية (التي لم يُقاتل احدٌ من ابنائها منذ اوائل الثمانينات) على حصة الاسد في دستور ما بعد الطائف نتيجة تحويل كل السلطات الى مجلس الوزراء مجتمعاً مما يعني عملياً ان رئيس الحكومة هو الذي سيتحكم بعمل السلطة التنفيذية. وجاء تعويض الطائفة الشيعية عن محدودية ما حصلت عليه دستورياً بابقاء السلاح في يدها بحجة مقاومة اسرائيل مقابل سحب السلاح من باقي الميليشيات القائمة آنذاك. وجاءت التحولات التي تلت حرب الخليج الثانية لتعدّل ميزان القوة لمصلحة سوريا وايران مما عزز القدرة القتالية للقوى الشيعية وبصورة خاصة "حزب الله". وبعد انسحاب اسرائيل من لبنان سنة 2000 نتيجة لاعمال المقاومة بقيادة "حزب الله"، تم الابقاء على سلاح الحزب وتعزيزه بحجة تحرير مزارع شبعا (وهي اراضٍ لم تكن يوماً مرسومة في ذاكرتنا الجماعية كأراضٍ لبنانية محتلة). وبذلك فإن ما لم تحصل عليه الطائفة الشيعية دستورياً عوضت عنه ببناء قوتها الذاتية العسكرية.
بناء على كل ما سبق فإن الواقع الحقيقي لتطبيق اتفاق الطائف هو انتاج سلطة تنفيذية برأسين ودولة بجيشين. لذا فإن اي اصلاح حقيقي للدولة والدستور لا بد من ان يبدأ بالتعاطي مع هذا الواقع وهذا يتطلب تنازلات حقيقية من الجميع. فالتداخل في الصلاحيات بين الرئاستين الاولى والثالثة يعني ان السلطة التنفيذية ستبقى في حالة توتر وضعف وبالتالي لا بد من فصل التداخل بين السلطتين. ومن طرفٍ آخر، فإن وجود جيشين في الوطن يعني ان الدولة ستبقى مرتهنة لارادة القوة الأقوى عسكرياً مما يمنع التلاحم الوطني ويدفع الى استمرار توالد التوترات بين الطوائف بسبب هذا الوضع.



في ظل عدم نضوج الشعب اللبناني حتى هذه اللحظة لتخطي الواقع الطائفي في اتجاه دولة المواطنة الكاملة، فان الحل الوحيد الممكن هو تحرير مواقع الرئاسات من هيمنة اي طائفة معينة عليها واعتماد مبدأ المداورة في السلطة بين كل الطوائف بعد اعادة النظر في الصلاحيات لانتاج سلطة فاعلة وقوية. ان القبول بهذا الحل يتطلب تخلي الموارنة عن احتكارهم لرئاسة الجمهورية مقابل قانون انتخابي اكثر تمثيلا لهم وحقهم في الحكم بالتساوي مع الطوائف الاخرى. اما على صعيد الطائفة السنية، فإن قبول السنة ان لا تكون رئاسة الحكومة دوماً من حصة الطائفة سيكون مقابل توحيد السلاح وابقاء السلطة التنفيذية برأس واحد وتبوؤ ممثل الطائفة اي منصب رئاسي بما في ذلك رئاسة الجمهورية. وفي ما يخص الطائفة الشيعية، فان اقتناع "حزب الله" بتسليم سلاحه للدولة وبناء جيش قوي لن يكون ممكناً الا مقابل حصول ممثل الطائفة الشيعية على الحق في الحكم بالتساوي مع كل الطوائف الاخرى. ان المداورة في تسلم المواقع الرئاسية بين الطوائف سيخفف من الاحتقان الطائفي ويغير طبيعة اللعبة السياسية في لبنان الى الافضل. ان ميزان القوى الاقليمية والمحلية لا يساعد في الوقت الحاضر على الوصول الى تبني هذا الحل نظراً لتعاظم دور "حزب الله" الاقليمي على اثر تدخله في سوريا الا انه لا بد من بداية بحث الافكار الجديدة حول مستقبل النظام اللبناني اذ ان الشلل مرشح لمزيد من الاحتقان والتأزم.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم