الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الديموقراطية اللبنانية ومعادلة الدم

المصدر: "النهار"
وليد حسين- صحافي
الديموقراطية اللبنانية ومعادلة الدم
الديموقراطية اللبنانية ومعادلة الدم
A+ A-

لعلّ أبرز "التوصيات" التي يوصي بها آرنت ليبهارت، ضمن العديد من التوصيات لديموقراطية توافقية مستقرة في المجتمعات المتعددة، "الفحص الديموغرافي الدائم" للمجموعات ومنح هذه الأخيرة حكماً ذاتياً واسعَ الصلاحيات. فإعادة التأكد الدورية من التطور الديموغرافي للمجموعات يشكل عاملاً أساسياً عند صاحب نظرية "الديموقراطية التوافقية والتشارك على السلطة"، وذلك لإعادة توزيع السلطة بين المجموعات. على العكس من ذلك سيبقى مصير هذه الديمقراطية معلقاً بين "غبن" من هنا أو تسلّط لأقلية ما من هناك. أما الحكم الذاتي الواسع الصلاحيات فيشكل حجر الزاوية للحؤول دون تدخل الأقليات بالشؤون الخاصة لبقية المجموعات وتالياً تجدد النزاعات، كما يؤكّد الباحث الهولندي.


ثقافة مدنية وسياسية


لكن، وبمعزل عن الموقف السلبي أو الإيجابي من "#الديموقراطية التوافقية"، وبمعزل عن تطبيق أو عدم تطبيق وصفات ليبهارت، نادراً ما تنجح هذه الأخيرة بتأمين السلم الأهلي الدائم في المجتمعات المتعددة، إذ تحتاج بالإضافة إلى تلك "التوصيات"، ثقافة مدنية وسياسية، مفتقدة في لبنان، تعتبر من الأعمدة الثابتة لنشوء الديموقراطيات المستقرّة. ليس هذا فحسب، بل يوماً بعد يوم، يُظهر اللبنانيون عدم قدرتهم على فهم معضلة الديموقراطية التوافقية في نظامهم السياسي. كما يُبدون عدم إكتراث للتاريخ الدموي الذي أسس لقواعد "التشارك على السلطة"، انطلاقاً من عهد المتصرفية ووصولاً إلى اتفاق الطائف. فإذا كان نظام المتصرفية، الذي أرسى دعائم التشارك على السلطة قد أتى بعد حروب طائفية عنيفة، ودولة لبنان ودستورها وُضعا بعد حرب عالمية أولى وميثاق وطني أرست دعائمه الحرب العالمية الثانية، فإنّ اتفاق الطائف أتى حصيلة 17 عاماً من الحروب الأهلية الدامية. والحال يصبح تجديد القسمة السياسية مرتبطاً بشكل عضوي بمعادلة الدم، ليس لأنها لم تطبّق وفقاً "لوصفة" ليبهارت، بل لأن هذا النوع من الديموقراطية يحمل في طيّاته إمكانات التفجر المستقبلية، ما يعني بأنها غير قادرة على توفير السلم الأهلي في المجتمعات المتعددة.


فتطبيق قواعد "الفحص الديموغرافي" تعتريه، إضافة إلى التكاليف المالية، إشكاليات تقنية مرتبطة بإعادة توزيع مفاصل السلطة بشكل دوري وإلى ما لا نهاية. أما الحكم الذاتي فيأتي على حساب الأقليات المختلفة الواقعة في النطاق الجغرافي غير المتوافق مع مجموعتها في الحيز الجغرافي الآخر، ناهيك بالنزاعات التي قد تنشأ نتيجة توزع الموارد الطبيعية بشكل غير عادل في الحيّز الجغرافي العام. أما الواقع اللبناني فشاذ في العديد من الجوانب، أولاً لم يُجرِ اللبنانيون إحصاءً للسكان منذ العام 1932. ثانياً ثمة استحالة في تحقيق حكم ذاتي واسع الصلاحية، حتى إن سياسيّي ما بعد الطائف تجاهلوا تطبيق اللامركزية الإدارية، فكيف بالحكم الذاتي؟! لكن، وبمعزل عن هذين المعطيين، الانتقال من قاعدة "المناصفة" التي تكرست في اتفاق الطائف، إلى قاعدة تقاسم مغايرة سوف لن يتحقق إلا وفقاً "لقاعدة الدم" التاريخية، التي تحكم عملية إعادة هيكلة نظامنا السياسي.


لم تستقرّ حالُ اللبنانيين بعد اتفاق الطائف على سلم أهلي منجز. فالمسيحيون عاشوا بين التهميش والغبن والتمثيل السياسي الهزيل وشبه الكاريكاتوري. أما المسلمون فبدوا غير مقتنعين بقاعدة المناصفة وقد اتضحت الصورة بشكل أفضل في فترة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان. فالثنائية الشيعية حكمت البلد بقوة السلاح قابلها شبه إجماع الطائفة السنية خلف آل الحريري في تزعّم الطائفة متصدرة الاقتصاد. 


اليوم، وبعد مضيّ قرابة العامين على الفراغ الرئاسي والتعطيل شبه التام لكل مؤسسات الدولة، ما زال اللاعبون اللبنانيون مقتنعين بأن لديهم القدرة على اللعب على حافة الهاوية. وبمعزل عن العوامل الخارجية والصراع الإيراني - السعودي، التي حال دون التوصل إلى حلول وسطى لملء الفراغ في قصر بعبدا وإعادة الحياة للمؤسسات الدستورية، يتحمل اللاعبون اللبنانيون المسؤولية الأولى في هذا الشأن. فعندما تتفق الثنائية المسيحية الأقوى مسيحياً على مرشح "قوي" لرئاسة الجمهورية، يكون أول المتوجسين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والزعيم الشيعي نبيه بري، وأخيراً وليس آخراً، الزعيم السني سعد الحريري، وذلك ليس لأن "رئيس" التوافق الرابية -معراب ليس "ابن النظام"، بل لأن هذا التوافق سيطيح بالمعادلات الانتخابية السابقة في كل المناطق اللبنانية في حال استمراره على "قيد المصالحة". ما يعني بأن العوامل الداخلية لإعادة الإستقرار لنظام الحكم ولسد الفراغ الرئاسي برئيس مسيحي له وزن تمثيلي تؤثر سلباً أكثر بكثير من تلك الخارجية.


والحال سيبقى لبنان في مراوحة دائمة من التعطيل وبلا رأس للدولة إلى أجل غير مسمى. وهذا الأخير ليس بالأمر المهم أمام معضلة تكلّس النظام السياسي وإمكانات تحقيق سلم أهلي دائم. "فويلات الوطن" بديموقراطيته العرجاء ستبقيه متأرجحاً بين احتملات عدة: "مثالثة"، تأتي بعد حرب أهلية تؤدي إلى سلم أهلي غير مستقر، وفي حال استعداد لحرب أهلية مقبلة، أو الإبقاء على المناصفة الشكلية الحالية التي تبقي الوضع القائم كما هو، وتحافظ على اللا استقرار الدائم، أو ربما يذهب اللبنانيون إلى تشكيل "دويلات"، متحدة أو منفصلة، لا هم في ذلك طالما قواعد اللعبة اللبنانية محكومة بمعادلة الدم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم