الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رحيل ميشال تورنيه الذي نظر إلى الله الراقص والمُبتسم

المصدر: "النهار"
رلى راشد
رحيل ميشال تورنيه الذي نظر إلى الله الراقص والمُبتسم
رحيل ميشال تورنيه الذي نظر إلى الله الراقص والمُبتسم
A+ A-

ترتدي البراءة أحيانا رداء الذنوب، وهذه حال شخصيّة أبيل الميكانيكي الخارج من رواية "ملك شجر المياه" ومن خيال الفرنسي الفاتن ميشال تورنيه الذي غادرنا أخيرا، في مطلع عقده التاسع.
ترك الكاتب سرداً مطبوعاً بالثقافة الفلسفيّة والأسطرة والشغف بالإنسان، أدب حظي بالإنتشار الشعبي المُرتجى والبعيد المنال، بفضل إدراجه في البرامج المدرسيّة. غير أن تورنيه لم يكن، على نسق ما أراد التصنيف المُستعجل، كاتبا لليافعين فحسب، ذلك انه تشكّل كتجربة تَقرّبت من الناشئة بلا ريب لكنها توسّعت لتشمل مُنجزا فسيحا ومُركّبا وطموحاً.
تورنيه هو الصوت المسؤول عن إعادة التمهّل عند شخصية "فندرودي" (الجمعة) في نص دانيال ديفو المعروف، من خلال خرافته الفلسفية بعنوان "فندرودي أو الحياة الوحشيّة". في وسط خمسة وثلاثين فصلاً على إختزال لافت، قدّم مشروعا وقف عند تقاطع إختصاصات عدة ونقّب في مفاهيم الحرية والطاعة ليقارن على نحو ضمنيّ بين الطبيعة العذراء وبين المجتمعات التي تعدّ متطورة.
أما "ملك شجر المياه" فاستعار هويّتها من قصيدة غوته المستوحاة بدورها من شخصيّة أسطوريّة في التراث الجرماني. في حين أتت هذه الرواية تورنيه بجائزة "غونكور" في 1970، أفصحت، كما المحطات التأليفية الإضافيّة، عن موهبته المحوريّة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تسخير للتهكم النثري وإعادة تشكيل للنماذج الأسطوريّة وإصرار على صيد الكلمة الصائبة.
لا لبس في أن "ملك شجر المياه" تعدّ من بين العناوين الأبرز في تجربة تورنيه الخاصة والحال انه يُمهّد لهذا التمرين الباحث في إنزلاقات الطبيعة الإنسانية، من خلال كلام لمواطنه فلوبير حيث يجزم أنه يكفي النظر إلى أمر محدّد وبإمعان ليصير مثيرا للإهتمام.
ها إنه وعلى مرّ نصه يوفّر الأدوات كافة لصقل الناس والمفاهيم، كأن ينصرف مثلاً إلى تأمّل موضوعه أبيل الذي يسمّيه البعض "الغول". يكتُب تورنيه انه يسع المرء تفادي أن يصير من الغيلان من خلال "التماثل مع أترابه، والمطابقة مع صورة والديه"، ليضيف في هذا الشأن أن الغيلان، وفي جميع الحالات، عاجزون عن التناسل.
يُنعَتُ أبيل بالغول ويثير الريبة بسبب تناوله اللحوم النيئة وملاحقة الأطفال، غير انه يُسدّد في الواقع فاتورة البساطة النابعة منه، ذلك انه وفي حقبة معاداة البراءة وعلى تنويعاتها، وفي ظل المحارق البشرية والحروب المستعرة، من التلقائي أن تسحل عجلة العنف العمياء أبيل، ناهيك بجميع أقرانه.
حلا لتورنيه أن يقلّل من شأن مقاربة نصوصه الفلسفيّة وأن يعاين نفسه أحد "المُهرّبين في هذا المضمار"، ولا شكّ في أن تجاوز حدود الشرعيّة الفلسفيّة، فكرة أحبها.
حين أراد تورنيه أن يستعيد تجربته، كما فعل قبل نحو عام في حوار مع صحيفة "لو فيغارو"، تحدّث ليقول "صوب أفول الحياة، في وسعنا أن نقوّم الحياة وفق ستة معايير: الحال الجسديّة والعائلة والحقبة والصداقات والحبّ والمهنة. أظن منجزي جيداً إلى حدّ معين، ذلك اني بلغتُ القمة المهنيّة من طريق "غونكور". أما الحلقة الأضعف، فالحقبة حيث عشتُ".
الحقبة التي يشير إليها هي حقبة التقهقر الأدبي حيث اختلط الصالح بالطالح وحيث لا مكان سوى للعُزلة. حقبة حيث باتت تجربة تورنيه التي تستدعي الفكر الترفيهي والرواية-الحكاية والكرنفال بهدف التعبير عن الحقيقة، فائضةً وغير جدّية.
في طبيعة الحال يعجز الزمن الراهن عن تحمّل كلام تورنيه. يقصّر الزمن الحاضر والمتجهّم في اعتناق فكره، هو الذي كتب أن لا وجود لأفكار سوى تلك السطحيّة والغنّاءة، وأن لا وجود لآلهة سوى تلك الراقصة والمُبتسمة!


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم