الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

خواطر فوق صنّين

أَحـمـد عـلـبـي
خواطر فوق صنّين
خواطر فوق صنّين
A+ A-

سطورٌ مهداة إلى الصديق شوقي أبي شقرا احتفاءً بثمانينه، وعقبال المئة.


(1)
الخميس 20 آب 2015
شـهوة الكتابـة


تحاصرني رغبة مِلْحاحٌ في الكتابة، فأنا، لخمسة أَيّامٍ مضت، نزيل أوتيل في صنّين، قد أَلِفَني وأَلِفته، لارتياديَ إيّاه دوماً، إبّان الإجازة الصيفيّة. ولم تذهب الأَيّام المنصرمة سدًى، فقد أَكببتُ خلالها على تحرير أَجزاءٍ من حوار طويل مديد، أَجريته قديماً مع الصديق الكبير الراحل حسين مروَّه، وتناول سيرته مذ كان فتًى يعتمر العِمامة، إبّان دراسته الدينيّة في النجف بالعراق، إلى أن صار أحد مفكّرينا المرموقين، عَلَماً نزهو بإنجازاته في الأدب والفكر، ومناضلاً تقدّميّاً يُحتذى في البذل والإخلاص والمحبّة. وهو حوار يحتاج منّي إلى تفصيح ما تخلّله من تعابير عامّيّة وافرة، وإلى تقويم بعض عباراته المرتَجَلَة وضبطها، وإلى تزويده عناوينَ فرعيّة ملائمة، وإلى كتابة الحواشي أُعرّف فيها أَسماء الأَعلام الكُثْر من عراقيّين ولبنانيّين الذين استشهد بهم أبو نزار - عنيتُ: حسين مروَّه. هو تحرير لغويّ، وهو تحقيق أكاديميّ، وهو قبل ذلك كلّه وفاءٌ لإنسانٍ هادئ - كما وصفه الكاتب القدير أَحمد بهاء الدين عندما كان يرئس تحرير مجلّة "صباح الخير" المصريّة في أَوائل عهدها الجميل - ولإنسانٍ كان أُمثولة في الصداقة والمودّة والموقف والرفاقيّة.
بيد أنّ العمل المتقدّم تحقيق وتنظيم؛ وأنا يعتريني اشتهاءٌ إلى الكتابة الحرّة التي تبلور أَشواقي وهواجسي. إذ إخال أنّ هناك شهوتين في مسرى حياتي الخاصّة، كفردٍ وضعته أُمّه فوق هذه البسيطة: الشهوة الحارّة التي لا معنى للحياة بتاتاً من دونها؛ أمّا الثانية عندي، والمماثلة للأولى في اضطرامها وخطورتها، فهي ما أسمّيه: شهوة الكتابة. وكما أنّه لا غناء عن الأولى، لأنّها إكسير الحياة وارتعاش الجسد المحيي؛ كذلك لا استغناء عن الثانية، لأنّها متعة الروح وبهجته المذهلة. وأنا جالس الآن في مقهى الأوتيل الرحب، عند زاوية مرتفعة قليلاً؛ أُبصر في طرفٍ منه فاديا تكنس الأرض بيمناها وتدندن، كما تُمسك بيسراها راديو ترانزيستور صغير تنساب منه الأَغاني الهازجة. ولا أَلومها على اقتنائها الراديو الصغير، حتّى وهي منغمسة في العمل اليدويّ، فأنا هاوٍ أصيل وعتيق لهذه الآلة التي بعثت الدهشة في الناس عند اكتشافها، إذ تساءلوا أيّ عفريتٍ هذا الذي يختبئ طيّ هذا الصندوق الخشبيّ! وكم يخالجني من دَهَشٍ عندما أَسمع من أحد الأَصدقاء أنّه لا يوجد عنده راديو في بيته. أُدرك تماماً أنّ التلفزيون حلّ مكانه في نشرات الأَخبار والأَحاديث والمقابلات السياسيّة؛ ولكنّي أنا أَغفو والراديو على مقربةٍ منّي، فوق الكومودينا، يظلّ شغّالاً طوال الليل، أَنام على موسيقاه وأَغانيه وعلى تعليقات البي بي سي؛ وأَستفيق على تحيّة تبثّ آخر الحوادث وتحاور سياسيّين من عندنا لا يفقه معظمهم معنى السياسة ولا دورها في حياة الأُمم.
إنّي مغرم بالراديو وسماع برامجه، والجيل السابق الذي أَنتمي إليه تربّى على هذه الآلة الساحرة. هل ننسى، مساء كلّ أَوّل خميس من الشهر، حفلات أُمّ كلثوم الساحرة يبثّها راديو القاهرة ويقدّمها المذيع بصوته الجَهْوريّ المِرْنان؟ هل من سبيلٍ إلى نسيان خطب جمال عبد الناصر، بشخصيّته الكاريزميّة، ولغته المترجّحة بين العامّيّة المصريّة المحبَّبَة والفصحى، وبإطلاقه الشعارات السياسيّة الكبرى؟ هل ننساه يوم أَمّم القناة، ويوم وقف فوق السدّ العالي، ويوم استقال إثر الهزيمة في 5 يونيو (حَزِيران) 67؟ حياتنا السياسيّة، على مدار الوطن العربيّ، وحياتنا الفنّيّة الغنائيّة، وحتّى المسرحيّة، كانت كامنة في الراديو ودوره التوعويّ الجليل. وأنا أَقتني في بيتي ستّة راديوات؛ فضلاً عن سابعٍ من نوع الترانزيستور أَضعه طيّ محفظتي، وثامنٍ بحجم الكفّ جاثمٍ عند طرف طاولة المطبخ التي آكل عليها. وقد يستغرب القارئ هذا العدد، فكيف لو حدّثته عن هوايتي المتّصلة بالساعات. سأَكتفي بأن أُخبره أنّ في مكتبي بالبيت، حيث أُكبّ على تدبيج الصفحات الغزيرة، عشر ساعاتٍ متنوّعة الأَحجام والأَشكال. وبعضها، ممّا اشتريته خلال أَسفاري، يعمل بالتعبئة، كما كان حال الساعة في سالف الزمان، وساعات الحائط ذات البندول كات تُربط أي تُعبَّأ. هذا البعض من الساعات، ذات الأَشكال المتفرّدة والبديعة، لجأتُ إلى ساعاتي صديق، فحوّلها من التعبئة بالزُّنْبَرَك إلى العمل بالبطّاريّة. وما دام الشيء بالشيء يُذكر فإنّ مفردة "الزُّنْبَرَك" هي من الكلمات التي ولجت لغتنا آتيةً من الفارسيّة. لكنّ صادرات الفُرْس المعاصرين إلينا تعدّت الزُّنْبَرَك إلى المدفع والصاروخ! لذا فإنّ جهداً ينتظرني عندما تُقْدم دولتنا العزيزة، التي نبحث عنها دائماً فلا نلقاها، على تقديم الوقت ساعة، من آذار إلى تشرين الأَوّل، فأُضطرّ إلى التعامل مع كلّ ما عندي من ساعات في أَرجاء البيت، دعكَ من ساعات اليد، لضبطها وَفْقَ التقويم الجديد، مع أنْ لا معنى له في نظر كثيرين، وبعض المتشدّدين يظلّون متشبّثين بالتوقيت القديم الصحيح ويسيرون على هَدْيه.


(2)
الجُمُعة 21 آب 2015
صنّين يسند ظهري


في القول المأثور: أَمشي حيث تجرّني قدمي؛ وأنا أَكتب حيث يجرّني قلمي. وهناك علاقة ودٍّ متبادَلٍ بيننا، فمنذ وعيتُ على أمر الكتابة، وهي كانت هواية في البَدْء، ثم غدت هواية ومهنة مع كرور الأَيّام، وأنا رفيق هذا القلم، أَتناوله بين الإبهام والسبّابة من اليد اليمنى، فلستُ بأعسرَ، من غير أن أَقول ولله الحمد؛ فقد تبيّن أنّ الكثيرين من الرجالات في التاريخ كانوا يكتبون مستعينين باليد اليسرى. وهذا شأن تشارلي شابلن العظيم الذي ملأ طفولتنا وشبابنا بأَفلامه الضاحكة البديعة. كما هو دَيْدن سياسيّ إنكليزيّ لا أُحبّه، لموقفه المناصر لإسرائيل، ولكنّي لا أَملك سوى الإعجاب الشديد بشخصيّة ونستون تشرشل وموقفه الاستثنائيّ إبّان الحرب العالميّة الثانية. كذلك كان أَعسرَ مَنْ دمّر أوروبّا وغطّاها كما غطّى بلده بملايين الضحايا، ألا وهو أدولف هتلر! وهو فعل ما فعل وهو أَعسرُ، فكيف لو كان أَيمنَ؟
مبعث الودّ المتطاول بيني وبين قلمي أنّني واظبتُ على التعامل معه. وكنتُ دائماً أَعجب للكتّاب من صحافيّين وأُدباء، نظير إرنست همنغواي وغيره، كيف يكتبون متوسّلين في ذلك الآلة الكاتبة، أي ما نسمّيه بالأجنبيّة المألوفة بيننا: الدكتيلو. والدكتيلو هذا هو غير الدكتيلو الذي شاع استعماله عن المكتب الثاني في الجيش اللبنانيّ إبّان العهد الشهابيّ. وأنا عرفتُ هذه الآلة لزمنٍ طويل، ولقد اقتنيتُ واحدةً ثابتةً برولو طويل، دققتُ عليها مئات الصفحات، مستعيناً في الدقّ بسُبّابة يدي اليمْنى فقط، وذلك لأنّي متخلّف طائش أرعن في الأمور اليدويّة. كما اقتنيتُ دكتيلو آخَرَ محمولاً، كنتُ أَضعه بين أَغراضي عندما أَصعد إلى الجبل صيفاً. على أنّي فوق هذا الدكتيلو أو ذاك لم أُباشر الكتابة مستعيناً بقريحتي؛ وإنّما كانت عيني اليمنى مركَّزة على الآلة، في حين أنّ عيني اليسرى تتابع صفحات مسوَّدَاتي وما تحفل به من إضافات وتصحيحات، فكأنّ بعض الصفحات خرائط. ومن الطريف مطالعة مسوَّدَات الكتّاب، فكيف بدراستها، كما فعل الباحث المصريّ مصطفى سويف في أحد كُتُبه النفسيّة الجميلة. وأنا اليومَ، كما هو حاليَ في أمس البعيد، ما فتئتُ متخلّفاً اتّباعيّاً في هذا الميدان، كما قد ينظر إليّ المحْدَثون المتقدّمون من الكتّاب الأدباء الذين انغمسوا في تعاطي الكومبيوتر والإنترنت، وأنا من هذه المخترعات، الجليلة القَدْر والنفع، لفي غُربةٍ مُعيبة وجهلٍ مطبق وضلالٍ أُقرّ به صاغراً، ولكنْ ما حيلتي ويدي لا تُحسن دقّ مسمارٍ في حائط! أَحسب أنّها قيود تكبّلني، ولا أَملك الخلاص منها، مع أنّي عندي شوق لاحبٌ إلى إجادة المهارات اليدويّة؛ ولكن ما العمل، فنحن لم نخلق أَنفسنا، وجيناتنا ليست من صُنْعنا، وكما يقول إبراهام لنكولن: "لا أحدَ يحبّ قيوده، ولو كانت من ذهب"! إنّه عيبي، وأَعترف به صاغراً، وأَضمّ صوتي إلى صوت مولانا أبي الطيّب حيث يقول:
نُعيـب زماننـا، والعيـبُ فينـا ومـا لزماننـا عيـبٌ سـوانـا!


فلستُ كاتماً ما بي من سلبٍ ونقصان، وإلاّ أصابني ما أصاب معبودتي أسمهان التي لا يجود الزمان بمثلها كلّ حين: وأنا كَتْمَا غرامي وغرامي هَلِكْنيْ!
أَكتب الآن بقلمي إيّاه، وأنا في موقعي الدائم من المقهى الرحب، فإنّ بيَ محافظة في اتّخاذ الأَماكن التي أَجلس فيها. ومن جملة عاداتي أنّي عندما أَزور بعض الأَصدقاء في منازلهم فإنّي أَخلد إلى الجلوس في المقعد نفسه لا أُغيّره. الهواء عليل اليوم في صنّين، بخلاف ما كان عليه في الأَيّام السالفة؛ والأَوراق على الشجر تهتزّ الهوينا، ليس بها طرب عاصف، وإنّما هي في اهتزاز بطيء، ثم تُوقف هذا الاهتزاز لكأنّها تتأمّل؛ وبين حين وآخَر ترمي ببعض وريقاتها في الهواء، فتسقط متمايلةً متراقصة لتفترش الأرض. أمامي ينبسط وادي بسكنتا يغشاه ضباب رقيق، وفوق الخيمة الكبيرة، التي تغمر المقهى ببياضها وبظلال الأَشجار المنعكسة عليها، شمس مشرقة كم هي مغذّية ومحيية للذين يستهويهم أن يعرّضوا صدورهم العارية لحمّام شمسٍ. وبناء الأوتيل، الواقع على الطريق العام، يعلوه من الخلف جَلٌّ متّسع قد زُرع فيه صفّ من الأَشجار الباسقة الخضراء البهيّة. وفوق المبنى والجلّ يرتفع جبل صنّين بصخوره الجرداء التي يرمي عليها الثلج شتاءً مَعْطِفاً سويّاً أَبيضَ ناصعاً، شديد البياض، فهو أَبيضُ يَقَقٌ، كما يذهب لغويّونا الأَفاضل، كما نقول أَحمرُ قانٍ مثلاً. وهو ليس مَعْطِفاً من شأن "المَعْطِف" عند غوغول الشهير. لهذا أَجدني وكأنّ كتلة صخريّة هائلة تسند ظهريَ وتقوّي موقعي. فأنا ههنا مسنود ليس بالمعنى السلبيّ الدارج، أي المرء الذي تسنده الواسطة وهو ليس أهلاً لوظيفةٍ أو موقع أو مهنة، وإنّما أنا عند شعوري ههنا مسنود كما يكون المرء مسنوداً بأَفكاره المقدّسة في طلب العدل وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، أو أن يكون مسنوداً بالمحبّة العارمة تأتيه من أَهله وخلاّنه ورفاقه. هذا الإسناد هو ضرب من اليقين، تتولَّد منه شجاعة في الموقف، واستهانة بالتضحية، وإقدام لا رجعةَ فيه؛ وهو ينفح الشخصيّة الإنسانيّة بصلابة وعزَّة وبتمسّكٍ فريد بالمبادئ؛ وأهلاً بعدئذٍ بالمعارك، فالإنسان الإنسان مَن يحيا لغاية نبيلة لا الذي يمشي زمنه سَبَهْللاً، لا يُدرك من حياته كُنْهاً ولا هدفاً ولا يعرف إلى أيّ سبيل يمضي. وقد جاء في الإنجيل القول اللطيف عن أَجناس الناس وما يُقْدمون عليه: "من ثِمارهم تعرفونهم". وذلك تَبَعاً للشعار: تُعرف الشجرة من ثمرها، كما إنّ الإنسان يُستدلّ عليه بما يصدر عنه من صنيع.


(3)
الاثنين 24 آب 2015
المطبخ اللبنانيّ


يقولون: صِدْفة خيرٌ من ميعاد. وأنا في "منفاي" الجميل في صنّين كنت أَتناول إفطاريَ الصباحيّ، وكلّي نشاطٌ وانشراح وقابليّة للأكل ولاستنشاق النسيم اللطيف، وكان يجلس بقربي، عند الطاولة بعد التالية، رهط من الرجال والنساء، أَبصرتُ في واحدةٍ منهنّ وجهاً مألوفاً عندي وإن لم أَستطع تحديد صاحبته. وعندما مرّ بعض هؤلاء الرجال بطاولتي، متوجّهين إلى حيث التمّ شملهم، أَلقوا عليّ سلاماً، من باب اللطافة، فرددتُ بمثله مرحّباً. وكعادتي عَقِبَ الإفطار انتقلت بعدئذٍ إلى طاولة نائية عند زاوية المقهى الكبير، وانصرفت إلى عملي الكتابيّ المألوف. وكان أحد هؤلاء الرجال يمشي متريّضاً في أَنحاء المقهى، وهو يرتدي شورتاً قصيراً، وجسمه عَبْلٌ معافى، ويضع على عينيه نظّارة سوداء، فاستوقفه منظري وقاده الفضول إلى أن يسألني عن فحوى ما أَنشط له، فأخبرته أنّني أُحرّر حواراً طويلاً عقدته في سالف الأَيّام مع المفكّر الكبير حسين مروَّه. فما كان منه إلاّ أن وقف قبالتي تماماً، فسدّ عليَّ الأفق بجسمه العريض، وقال لي: الدكتور حسين مروَّه أُستاذي. ولعب الفار بعُبّي، وَفْقَ ما ينطِق المَثَل، فلا بدّ أن يكون بيني وبين الرجل الماثل أماميَ وَحْدةُ حالٍ، كما يقول التعبير الشائع. فطلبتُ من الرجل أن يخلع نظّارته السوداء، التي ضلَّلتْني دائماً عن التعرّف إلى مَنْ يضعها فوق وجهه، أرجلاً كان أم امرأة؛ وعندما فعل عرفتُ فيه توّاً الصديق العريق والاقتصاديّ اللاّمع الذي يُقرّ الجميع بكفاءته وتميّزه، وهو كمال حمدان، وهو أيضاً قد ثاب إلى رشده أنّني فلان، فما كان منّا إلاّ أن هجم أحدنا على الآخَر في موجة عناق ٍواشتياق. كما أنّ الوجه، الذي شككتُ بمعرفتي إيّاه، كان وجه زوجته العزيزة. وكان العتب صادراً منّي إليهما وإلى صديق آخر كان بمعيّتهما مع زوجته، وقد بَعُدَ الزمن على رؤيتي لهما. فهذا الصديق الآخَر كان ذات يوم ٍمضى يحمل فوق رأسه شعراً كثّاً، وكان جسمه على فتـوّة وأَلَق؛ لكنّ السكّري قد أحاله إلى شخصٍ مختلفٍ عمّا كانه، فما تعرّفت إليه؛ مع أنّي أَحمل ذاكرة حيّة في ما يختصّ بالأَشخاص والأَماكن. وعتبي عليهم جميعاً أنّ هيئتي هي هي منذ سنوات بعيدة؛ صحيح أنّ شعري قد ابيضّ تماماً، ولكنّ تقاطيع وجهي وملامحي ما زالت تنبئ عن هويّتي القديمة.


هؤلاء الأَصدقاء الذين التقيتهم صُدْفة، وهي صدفة مستلطَفَة وغير منتَظَرة، أَضفوا مَسْحة حميمة على إقامتي هناك في الأَعلى؛ مع أنّ هذه الوَحْدة التي أَحياها ليست موضع تململٍ أو ضيق عندي، على العكس من ذلك فهي وَحْدَة أَطلبها وأَسعى إليها محبوراً. فكما أنّ تعاطي التجارة يحتاج من الذي يعمل بها إلى إجرٍ مكسورة، كما يذهب المَثَل، يعني إلى استقرارٍ وحضور دائم في مكان عمله؛ هكذا الكتابة تتطلَّب، من الذي وطّن نفسه على ممارستها، شيئاً من الرهبنة والعزلة. وعندما أُقْدم شخصيّاً على عملٍ كتابيّ معيّن فإنّي أُؤثر على إنجازه منفرداً في مكانٍ ما، كما أَفعل هذه الأَيّام في خُلوتي بين ربوع صنّين حيث أَعتزم البقاء ما يزيد على أُسبوعين. ثم إنّ الأكل طيّب المذاق، والطقس مُنْعش يجلب العافية، والكلفة الماديّة متوسّطة لا تُرهق الجيب، وأَصحاب الأوتيل قوم لُطفاء يحيطونك بالرعاية وبالمعشر اللبنانيّ الوطيد. فأنا من القائلين بأنّ السائح القادم إلينا من البلدان العربيّة الشقيقة يلقى ههنا مُناخاً رائقاً؛ لكنّه يعثر بين ظَهْرَانينا، فضلاً عن ذلك، على شعبٍ مضياف يُحسن التعامل مع الآخرين؛ كما أنّ هذا السائح يقع على طعامٍ في غاية النكهة واللذاذة، ممّا ليس متيسَّراً على الدوام في سائر البلدان. إنّ المائدة اللبنانيّة تكاد تكون موضع فخر. ولا ينبغي أن نستهتر بهذه الناحية. صحيح أنّ الإنسان لا يعيش بالخبز وحده، كما يقول الإنجيل، لكنّه لا يعيش على أيّ حال إذا حُرم منه. فالمأكل والمشرب قِوام حياة الإنسان، ومطبخ أُمّة هو عنوان تحضُّرها. والولايات المتّحدة على عراقة مدنيّتها وتفوّقها التكنولوجيّ هي أُمّة لا مطبخ عندها يُعتدّ به. فهي ما زالت حديثة في التاريخ، أبادت، منذ نحو ثلاثمئة سنةٍ، ملايين الهنود الحمر لتحلّ محلّهم، ومن هنا إعجابها بإسرائيل، لتماثل الحالتين بينهما؛ فهذه الأُمّة، التي ما زالت في طور التكوين، لم تُدرك بعدُ رهافة المأكل. والمستشرق الفرنسيّ التقدّميّ، مكسيم رودنسون، الذي قام بخدمته العسكريّة عندنا في بيروت وصيدا، حَسَبَ النظام الفرنسيّ، فتعاطى التعليم والبحث العلميّ خلال الأربعينات من القرن المنصرم، فإنّ أَوّل عملٍ نهض به في مسيرته الاستشراقيّة هي دراسة المطبخ العربيّ.


الصداقة جميلة بالتأكيد، بل هي من أروع ما يقع عليه المرء في حياته. وحياة من غير صداقة هي رحلة قاحلة، خبطٌ في بَيْداء، وَحْدة قاتلة. كذلك فإنّ الكتابة مجلبة للمتعة والبهجة ولاكتناه معنى الحياة. فمن دأب الكاتب أن يرى في الأُمور العاديّة عند الناس ملامح غير عاديّة. وأنت تشاهد المناظر الطبيعيّة، لكن الفنّان يكتشف من خلالها زوايا لا تخطر لك على بال. يقول أنطون تشيخوف: "وكل شيءٍ في الإنسان يجب أن يكون جميلاً: وجهه وثوبه وعمله وأَحلامه". وليسمح لي هذا الأديب الروسيّ، الذي بدأ حياته بكتابة القصص الهزليّة، ثم غدا بعد ذلك من أَرهف الأُدباء في تاريخ بلده روسيا، بل في تاريخ الإنسانيّة؛ بأن أُضيف إلى عبارته من أنّ الإنسان ينبغي أن يكون جميلاً أيضاً في صداقته، وجميلاً في مأكله، وجميلاً في كتابته إن كان ممَّنْ يمتشقون القلم ليخطّوا به خلجاتهم وأَمانيّهم.


(4)
الأربعاء 26 آب 2015
جـود شـرّف


ها أنا جالس في مقهى الفندق الفسيح عند طاولةٍ، غير التي أَلفتُ الجلوس إليها، وذلك طلباً لبعض أَشعّة الشمس أَستدفئ بها. ففي البارحة عمِلتُ في غرفتي نفسها، ونُقلتْ إليها الطاولة الخشبيّة الجميلة، فهي قطعة موبيليا متقنة الصنع، ومن مألوف عادتي أن أَجلس إليها عند الشرفة الملحقة بغرفتي، الواقعة عند الزاوية الشماليّة في الطابق الأوّل، والمطلّة على الحقول والخضرة اليانعة. لكنّ البرد دهمنا، بعد الظهر ما قبل البارحة، وإذا بالضباب يعمّ الوادي ويصعد إلينا، مخترقاً الشجر والتلال والفندق، بحيث إنّ النافذة في غرفتي بات زجاجها أَبيضَ لا يبين وراءه أيّ منظر. وتدثّرتُ بما حملته من لباسٍ وقائيّ غزير، فأنا والبرد خصمان، وفي الشتاء أُعاني من مزاحه الثقيل، فهو يتطفّل على عظامي، غير مُراعٍ لحرمة اللباس مهما كانت طبقاته. وما باله لحق بي إلى صنّين، ونحن ما برحنا في شهر آب المنعوت عموماً باللهّاب. ولكنّ فاديا أَخبرتني، وَفْقَ المِتِيو الشخصيّ الذي حصّلته بالخبرة والمتابعة، أنّ الطقس إلى تحسّن، وأنّه سينقلب في الغد إلى مقبول. ويبدو أنّها أَصدق إنباءً من الرصد الجوّيّ عند الدولة، ففي نشرة أَخبارها المبثوثة في المذياع، أنّ الجوّ ستنخفض درجاته، وهناك رذاذ متوقَّع عند الأَعالي. ولو أنّي انقدتُ لتعليمات الدولة العليّة في إرصادها لكان متوجَّباً عليّ، عند القيام بنزهةٍ، أن أَتأبّط مظلّة واقية، وأن أَضع فوق كتفيّ ترانشكوتاً على سبيل الاحتياط. وعلى سيرة الترنش فإنّ الراحل أَحمد أبو سعد أَصدر في سالف الأَيّام ديوانه "قصائد دافئة"؛ فما كان من الكبير رئيف خوري، بروحه المرحة وسخريّته ذات المذاق، أنْ علّق قائلاً إنّ هذا الديوان ينبغي أن يُباع مرفقاً بالترانشكوت!


كان في عزمي أن أَفِدَ على الأوتيل في صنّين منذ أَوائل الشهر، لكنّ كَنَّتي فرح، زوجة ابني وضّاح، حامل بوليدها الأَوّل، وهو في الوقت نفسه حفيدي الأَوّل الذي سأَغدو بعد تشريفه حاملاً وسام الجَدّ أُضيفه إلى جملة ألقابي ونياشيني. ولكن كيف السبيل إلى الصعود وجُوْدٌ قد تأخّر في النزول، فهو يكنز لحماً بحيث صار وزنه فوق الأربعة كيلوغرامات، ويزداد طولاً بحيث تجاوز النصف متر. وليس متعدّياً ههنا في طوله، فعندما أخبرهم الطبيب خلال الحمل بهذه القامة اهتزّ أبوه طرباً وعَلَتْ وجهه ابتسامة، فها هو ابنه القادم يرث عنه قامته الممشوقة. وأنا أَخطُّ هذه الكلمات هبطتْ فوق أَوراقي وريقة شجرٍ صغيرة صفراء لا يزال بعض اخضرارٍ عالقاً حول ساقها. العجيب أنّها على شكل قلبٍ، لكنّ طرفه الأسفل معوجّ قليلاً. نعود إلى جود، فيحسَبُ العارفون أنّني وراء هذه التسمية لحفيدي، باعتبار أنّي أَتعاطى الأدب والكتابة، فلا بدّ أنّي مَنْ وقع اختياره على هذه التسمية اللطيفة. فابني وضّاح - وللمناسبة فإنّ أُمّه هي التي سمّته، كما سمّت أيضاً ابننا الأَوّل، وهو عمّار، وكان في نيّتي أن أَدعوه أَميراً ـ ابني وضّاح له عقليّة علميّة مشابهة بعض الشيء لعقليّتي. فلكي يهيّئ اسماً لوليده القادم قصد المكتبة وابتاع ثلاثة كتب، باتت دارجة في أَيّامنا، وهي تشتمل على قوائم بالأَسماء مرفقةً بمعانيها. واختار وضّاح بعد غربلة إثر غربلة من بين الأَسماء المدرجة بالمئات، قرابة خمسين اسماً في الغربلة الأخيرة، ووقع اختياره من بينها على وليّ عهده: جود.


كَنّتي بكريّة، بمعنى أنّها تلد وليدها الأَوّل، والشائع أنّ البكريّة تتأخّر في وضع وليدها. وأنا في حالة انتظار، كما هو حال زوجها وأَهلها، فكيف أَترك العاصمة قاصداً الجبال، قبل أن أطمئنّ على فرحٍ وجود. هي على سلامتها، وكان بالي مشغولاً عليها؛ وهو على سلامته، وكان عقلي موسوساً، فهو اختبار جديد على حياتي. فالولادة تحدث كلّ لحظة، وبالآلاف المؤلَّفة، لكنّها تبقى لصاحبها ولأَهله حَدَثاً فريداً يشغل البال ويملأ الخاطر. والولادة أشبه بالحبّ، فهو كالماء والهواء يروي ويُنعش الناس فوق هذه البسيطة، ويحدث كلّ يومٍ ولحظة وآنٍ، لكنّه يظلّ للواقع في شِباكه حدثاً ليس كمثله شيء، وكأنّ معاناته لم يعرفها سواه، ربّما باستثناء مجنون ليلى وروميو ودون جوان. مع أنّ العاطفة في الحبّ رجراجةٌ، وقد تكون خدّاعةً. فكما في مأثور الحكمة العربيّة: ثقة العاطفة شهر، وثقة العقل دهر. لهذا كان الشاعر الرومنطيقيّ الفرنسيّ الشهير، أَلفرد دو موسيه، يقول: يجب أن نُحبَّ دائماً بعد حبّنا الماضي. شطح بي القلم، وهي عادة أو نقص أو انحراف مهنيّ، كما نقول، أن أَتنقّل في الكلام من موضوعٍ إلى آخَر فثالثٍ ورابع إلى حيث يجرّني عقلي ولساني إلى موضوعات متدرّجة متنقّلة يُفضي أحدها إلى الآخر. ولقد تعاطيت التعليم أَربعين سنةً في الثانويّ والجامعيّ، وكان طَلَبتي، الذين كنتُ دائماً على وفاق ٍووَدَاد معهم، يخبرونني قائلين: أنت لم تعلّمنا العربيّة فقط، وإنّما شردتَ بنا إلى التاريخ والجغرافيا والسياسة والبيولوجيا والجيولوجيا وموضوعات الثقافة العامّة التي تمليها النصوص وتستدعيها الشروح.


وبما أنّ جوداً كان، على ما يبدو، مستأنساً في رحم أُمّه لا يبغي مبارحتها، ربّما لأنّه ترامى إلى سمعه أنّ بيروت تعجّ بالمشاكل والعجائب وضروب النقمة، ودواعي الغضب والثورة، والتكسير يصدر عن المندسّين المعروفين لأنّ تخريب الأَوطان دَيْدَنهم ومهنتهم؛ لهذا كلّه تمترس جود في مكمنه ورأسه متّجه إلى تحت. وكان على الطبيب أخيراً أن يقرّر إنزاله بالعمليّة القيصريّة. وهي لا تتطلّب سوى وقت قصير، خرج بعدها جود من رحم أُمّه مكتمل شعر الرأس، ولا غرابة فالعائلة ذات شهرة ذائعة بشعرها، حتّى أنّ هناك مَثَلاً متداوَلاً في الشام، منبت العائلة الأصليّ، كذلك هو معروف في فلسطين، كما أَخبرني بذلك أحد الإخوة الفلسطينيّين، حول شعر بيت العُلَبي. ولا يحتاج جود إلى مشطٍ هديةً، وذلك لأنّ هذا الشعر مآله إلى أن يهرّ خلال شهرين أو ثلاثة، كما أَنبأتني ريما، ابنة أُختي العزيزة سلمى التي ارتحلت عن دنيانا، وهي قد جاوزت الثمانين، لكنّها ظلّت حتّى آخر عمرها محتفظة بأناقتها وجمالها، فكأنّها زنبقة بيضاء لا يداخلها الذبول ولا البِلى. باختصار أَختم سطوري لهذا اليوم مشيراً إلى أنّ جوداً أَقبل أخيراً على دنيانا يوم الجمعة، وأنا، بعد أن داخلت الطمأنينة صدري وعمرت روحي بالفرحة الغامرة، شددت يوم الأحد الرحيل إلى صنّين؛ وسألني وضّاح ألا تنتظر لتناول المِغْلي، فأَجبته: أَوّل أيلول عند رجوعي من هناك. وما أثار عَجَبي أنّ الزميل الراحل أَحمد أبو سعد ذكر في كتابه المستلطَف "قاموس المصطلحات والتعابير الشعبيّة" (مكتبة لبنان، بيروت 1987) حول المِغْلي أنّه "يُصنع بمناسبة الولادة، وخاصّة بمناسبة ولادة الذكر" (ص155). مسكينة حوّاء العربيّة، فهي مغضوب عليها، حتّى في الأَرحام، وتخرج إلى الدنيا من غير مِغْلي!


(5)
الخميس 27 آب 2015
الأب رمزي


كنتُ جالساً، كعادتي قبل الظهر، أَنشط للكتابة وأَتأمّل بسكنتا منطرحةً عند الوادي، وفي الأَعالي فوقها تبدو ضهور الشوير، وإلى جنوبها على السويّة نفسها تشمخ المروج. وكانت قهقهات صخّابة مرحة متوالية، لا تفتر قهقهة منها إلاّ وتلحق بها ثانية أشدّ رنيناً، تصدر عن امرأة عند طاولة غير بعيدة عن طاولتي، ويجالسها شاب هادئ وصموت. ويبدو أنّهما أحسّا بلسعة بردٍ، فجاءتهما فاديا بكنزتين مسعفتين؛ والمرأة يجتاحها مرح، وهي طليقة اللسان، فانعقد حديث لها وأخذٌ وردّ مع فاديا التي لا يكلّ لها لسان وتميل إلى الضحك والتمايل، فإذا بطنجرةٍ وقد لاقت غطاها. ثم بعد انقضاء ساعةٍ أَبصرتهما يُقبلان نحوي، حاملَيْن الأركيلة التي جاءتهما بها فاديا، وسلّما قائِلَيْن لي: يبدو أنّك كاتب، وقد لفتنا انصرافك إلى الكتابة، فهل تسمح لنا بالتعرّف إليك؟ فرحّبت بهما ودعوتهما إلى الجلوس معي. المرأة المِضْحاك تحمل فوق هامتها شعراً أسودَ فاحماً غزيراً، يتجمّع عند طرف وجهها الأيسر، وكأنّه دَغْلٌ أفريقيّ، وهي شديدة السمرة، ترتدي تنُّورة قصيرة، ويبرز لها جسم عَبْل وساقان ممتلئتان كأنّهما جِذْعا شجرتين باسقتين. وعلمتُ أنّ اسمها ميشا، أي صيغة الدلع لميشلين. وهي زوجة الشابّ، الحليق الرأس الذي يضع فوق أنفه نظّارة طبّيّة، وتستأثر به الوداعة والكياسة، وهو يرتدي شورتاً أَبيضَ على أَزرقَ يصل إلى ما تحت الركبة بقليل، ومن النوع الذي يسمّيه الباعة: البوكسر. وفاجأني أنّه أبٌ، الأب رمزي، وهو يرعى طائفة الروم الكاثوليك في إحدى بلدات المتن الشماليّ. وبما أنّي على بيّنة من أنّها بلدة يغلب على سكّانها أنّهم موارنة، فلقد بادرته مازحاً: أنّ الرعيّة التي تتعاطى معها يقتصر عددها عليك وعلى مواطنٍ آخَر ربّما! فابتسم موافقاً إيّاي أنّ عدد رعيّته قليل. ثم أَخبرته، والمُزاح حشو حديثي إليه، أنّ هذه التسمية، روم كاثوليك، رمتني دائماً في حَيْرة، فكيف هم روم وكيف هم كاثوليك في الآن نفسه، فإمّا هذا وإمّا ذاك. وهي تركيبة لفظيّة أشبه بالتركيبة التي كانت شائعة عند الأَحزاب الشيوعيّة، ألا وهي: الديموقراطيّة المركزيّة. فكيف تكون ديموقراطيّة وكيف تأتلف مع المركزيّة نقيضتها! المهمّ أنّ الأب رمزي متزوّج، قبل انخراطه في سلك الكهنوت، وقد درسه في لبنان في جامعة الكسليك وفي حريصا، وهو في شرخ الشباب، وعنده ولد في الخامسة أَرتني أُمّه صورته في هاتفها الذكيّ، ويُدعى: أَنجيلو. وانطلقنا في حديث متشعّب عن لبنان وزحمة القِدّيسين هذه الأَيّام فوق أرضه؛ وما يحدث من حِراكٍ شبابيّ غضوب في عاصمته؛ وعن بابا روما صاحب الشخصيّة المحبّبة الذي جاء في أوانه، لأنّ الكنيسة في العالم تعاني أزمة كبرى، والبابا فرنسيس نفسه قال مازحاً من أين نكشوه وهو الأرجنتينيّ، وكان البابوات دائماً من إيطاليا وأوروبّا. ولكنّ أحوال الفاتيكان قد تغيّرت؛ كما أنّ الدنيا قد تبدّلت فيها الأَوضاع رأساً على عَقِب، وإلاّ فكيف السبيل إلى فهم أنّ باراك حسين أوباما قد صار رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة، ومنذ نحو نصف قرن فقط أو أكثر قليلاً كانت العنصريّة ما برحت سائدة فيها، ويُمنع على الزنوج ولوج مطاعم البِيْض، كما يُمنعون من ركوب الحافلات معهم. والزعيم الزنجيّ، مارتن لوثر كنغ، صاحب الخطبة التاريخيّة الرائعة التي أَلقاها في الحشود بصوته الداوي الفخيم، عندي أملٌ، قد اغتيل، لكنّ أمله قد عاش وتحقّق، وكان من المحتفين بذكراه أوباما نفسه. وتحدّثنا عن أُمورٍ جمّة، وتخلّل حديثنا مرحٌ ومُزاح، وميشا، ببراءتها وتلقائيّتها، لا تفتر عن نعتي من آنٍ إلى آنٍ بأنّي مهضوم وأَعرف أَشياءَ كثيرة. وانتهى لقاؤنا الظريف بتبادل أَرقام الهاتف، وبحفلةٍ من أخذ الصور عَبْرَ الهاتف الذكيّ الذي بحوزتهما، وقد تكرّما بإرسالها في الحال إلى ابني عمّار، الأستاذ في الجامعة الأميركيّة، فشكرهما؛ كما شكر منذ أَيّام الدكتورة كلود ابنة صاحب الأوتيل والأستاذة في الجامعة اللبنانيّة، على الصور التي رغبت مشكورةً في التقاطها لي، وزوّدت ابني توّاً بها بكبسةٍ من هاتفها الفائق الذكاء.


نحن نحيا في عصرٍ انقلابيّ مدهش، والمخترعات تتوالى، وكلّ منها أعجب من سابقه، بحيث بات التطوّر يُقاس بالأَشهر وليس بالعقود والسنوات. إنّ نمط حياتنا الاجتماعيّة والإداريّة والثقافيّة قد غزته هذه المخترعات؛ وصغارنا اليوم يتدرّبون عليها منذ نعومة أَظفارهم، بحيث صاروا مَهَرَةً فيها، وإذا ما احتاج الأب أو الجَدّ إلى إصلاح أو معالجة آلته فلا مَنْ يقوم بنجدته سوى هؤلاء الصغار، الذين صات أَناملهم تجري فوق أَزرار هذه المخترعات وصفحاتها في يُسْرٍ وخفّة وبراعة وذكاء لا تُضاهى. ونحن، فئة المحافظين المتخلّفين عن ركب هذه المخترعات، نجد أَنفسنا في غُرْبة حقيقيّة لا سبيل إلى نكرانها، لأنّ لغة جديدة غدت متداوَلَة، وهي لغة تغتذي كلّ حينٍ بمصطلحات طارئة وابتكارات أعقد وأغرب، ممّا يزيد هذه الفئة المحافظة، من غُرْبتها، ومن أنّ القطار قد فاتها، فلا جدوى من اللحاق به، إنْ هو إلاّ سراب خادع. وبعض معاهدنا التعليميّة المتقدّمة قد أَلغت عند الطالب محفظة الكتب المتخمة، فسبيله إلى التعلّم ما ندعوه الأَيْباد، هذا اللوح الخلويّ الذي يعثر من خلاله على كلّ ما يبتغيه من دروس ومعلومات وشروح وفنون ولغات وحلول. وهو يشتمل على إمكانات هائلة واحتمالات لا تخطر أحياناً على بال، والمنتفع هو الذي يعرف السبيل ويتدرّب على نبش هذه الخفايا، فهي متوافرة واللبيب مَنْ يغوص في طلبها متسلّحاً بالصبر والأَناة والحِجى. فهو عصر العقل المبدع، ولا إمامَ سواه، وهو يَعِدُ بمستقبلٍ حافل للإنسانيّة، بحيث إنّ تعابيرَ، من مثل المدهش والمذهل والعجيب والغريب، لم تعد تفي الموضوع حقّه من التقويم، فهذه نعوت باتت قديمة، يومَ كان الناس يتعاطَوْن السحر ويؤمنون بالجانّ والخوارق. ألا إنّ زمناً آخَر قد أَدركناه، وانفتح على إمكاناتٍ في الطِبّ والهندسة والميكانيك، ستساهم في حماية أَجسام البشر وإطالة أَعمارهم ورعاية عقولهم من أَمراضٍ تفتك بها ومن أَوبئة تجتاح مجتمعاتهم. كان السلّ يدبّ الهلع في مفاصل المجتمعات الأوروبيّة، وكم من رواية أدبيّة انعقدت حول هذا القَدَر الغاشم والهادم لعلاقات الهوى والمبعثر للذّات، وإذا به الآن من ذكريات الماضي. ونحن نعاني من أَمراضٍ فتّاكة، كالسرطان على أَنواعه والزهايمر والبركنسون وغيرها من أَدواء، لكنّها إلى زوال، مهما حصدت الآن من ضحايا، لأنّ الأَبحاث الوقائيّة الموغلة على قدمٍ وساق حول المعمورة. ولسوف يأتي يوم نأسف فيه أنّ حاكماً عظيماً، مثل محمّد علي باشا، باني مصر الحديثة، وقد حكمها نحو نصف قرن، قد أَلمّ به خَرَفٌ في أَواخر أَيّامه. وقد خلفه عندئذٍ ابنه القائد الجَهْبذ، إبرهيم باشا، الذي عرفناه في بلادنا، لأنّه كان على رأس الحملة المصريّة على بلاد الشام؛ التي كانت ذات أثرٍ ملحوظ في تطوّر مدينة بيروت، وهي التي دامت قُرابة عشر سنين بين ظهرانَيْنَا. وإبّانها كانت المطارق تدوّي ليلَ نهارَ في بلدة دوما البترونيّة، لأنّ أَهلها كانوا يهيّئون حدوات الحديد، المتوافر في أرضهم، وذلك لأَحصنة الجيش المصريّ.


(6)
الجُمُعة 28 آب 2015
الأستاذة زينـه


النحل يطنّ حولي ويتطاير هنا وهناك ويتقاطع، مانعاً إيّاي من الكتابة على هواي، لكنّه مهما طنّ واقترب ثم ابتعد محوِّماً، فلن يتغلّب على ما يضجّ في صدري من بنات أَفكارٍ يانعات. البارحة، والساعة الرابعة ما بعد منتصف الليل، نهضتُ لأَبُلَّ ريقي بجرعة ماء، فحسِبْتُ أنّ أَشعّة تتلصّص عليّ عَبْرَ زجاج النافذة، كان القمر بدراً فوق المروج، لكنّه لم يكن هذا القمر الصغير الثابت في كبد السماء بعيداً في الأَعالي، وإنّما ما حبّبه إلى قلبي أنّه كان دائرة كبيرة مشعّة أشبه بصنج؛ وهو يبدو داني المسافة فوق المروج، بحيث يُخيَّل للساكن هناك أنّه على مرمى نظر قريب، ولو أنّ طفلاً كرج يلعب وشاهده لرفع يده اليمنى علّه يلمسه أو يقطف قَبَساً منه. هذه طبيعة تُعبد، ولا نفادَ لجمالاتها، ومهما تغنّى بها الشعراء وافتنّ بها الأُدباء فهي معرض دائم الفتنة، دائم اللمعان، ونظلّ قاصرين عن إيفائها حقَّها من الإجلال والإعجاب. نحن الكتّاب، نقدّم على مذبحها قرابين من الكلمات؛ ولكنّ مَنْ يتغلغل في أَعماقها، كما يتراءى لي شخصيّاً، فهو الفنّان التشكيليّ. إنّ اللوحة، عند الفنّان المبدع، إعادة اكتشاف باهر لما في مكنونات الطبيعة من أَلوانٍ وأَسرار. إنّها، أي اللوحة، إغناء فنّيّ وإنسانيّ، فهي طبيعة منظورة، وقد أُضيفت إليها طبيعة بشريّة بكلّ غناها المعرفيّ والثقافيّ العريق. عندما أُشاهد أَلوان حسن جوني المنطرحة فوق القماشة، فأنا مدرك أنّ الطبيعة لا حدود لغنى أَلوانها، لكنّها ههنا أَلوان مستمدَّة من الطبيعة وقد صقلتها أو هذّبتها أو عدّلت فيها أو زادت عليها روحيّة الفنّان الصديق جوني وموهبته وثراء تجربته الطويلة.


الست جولي، زوجة صاحب الأوتيل والمشاركة في إدارته، تقلّب على الدوام، وهي جالسة إلى طاولتها المستديرة في زاوية القاعة الكبرى الداخليّة، ورق الشدَّة، تصفّه تارةً، وتقلبه طوراً، وتكدّس بعضه فوق بعضٍ في حينٍ ثالث؛ وعندما سألتها الخبر عن هذه اللعبة، أَجابتني أنّها تُدعى Beriba، وهي أشبه بلعبة الكاتورز (14). وأنا، يا غافل لك الله، لا أَفقه شيئاً في هذا الميدان، وكلّ ما أَتقنته، في سالف زمني، من أَلعابٍ هو لعبة الباصرة، وتشتمل في بساطتها، على ما أَذكر، العَشْرَة الطيّبة والقاشوش. وأيّ متعةٍ يستشعرها المقامر، أو الهاوي المغرم، عندما يضع الورق بين يديه ويخلطه ويجعله يكرّ ثم يعاود خلطه ويرمي به موزِّعاً فوق الطاولة الخضراء بمهارة وخفّة واقتدار. لا أَلوم الهواة، فالحياة مِتَعٌ، وفيها جانب من التسلية وتجزية الوقت؛ ومنهم مَنْ يستطيب سباق الخيل، وعمر فاخوري كان من رُوّاد السباق؛ لكنّ الخطر كلّ الخطر لمَنْ يغرق في دوّامة القمار، فهو مجلبة للخراب وتضييع الثروة وإهمال العائلة وفساد الأَخلاق وضياع القيم؛ فهو لذّة آثمة وعواقبها دائماً متماثلة، فليس من مقامر يخرج فائزاً، ومع ذلك فهو لا يرتدع ويظلّ مثابراً، حتّى يستدين أُجرة السيّارة التي ستعود به إلى البيت وقد أَوغل الليل.


من منافع الإقامة في الفندق أنّك تتعرّف إلى أُناسٍ تجمعك بهم أنّكم جميعاً نزلاء مكانٍ واحد؛ وبما أنّ الحسّ الاجتماعيّ ورفع الكلفة والفضول والرغبة في التسلية ومتعة الحديث مع آخَر، أُمور دافعة جميعها إلى التقرّب من نزيل في الفندق حاله كحالك، أي أنّ كلاًّ منكما ساعٍ إلى كسر الوحدة واكتشاف إنسانٍ ينزع عنك صمت المشاعر. لهذا كلّه وجدتني أَقصد في طرف المقهى بقعة تشتمل بخاصّة على كنبات عدّة، واحدة مستطيلة تستوعب ثلاثة أَشخاص، وكنبتان كلّ منهما لقاعدٍ بمفرده. ومن عادتي عندما أُريد أن آخذ هنيهة راحة واستجمام من الكتابة فإنّه يَلَذّ لي أن أُبارح مقعد البلاستيك، الذي أَظلّ مشدوداً إليه لساعةٍ أو أكثر، لأَفيء إلى هذه البقعة ذات الكنبات، فإنّ في الجلوس ههنا كسباً في الاسترخاء وتأمّل الطبيعة والشرود، بعد التركيز في عمليّة الكتابة والرَّهَق الفكريّ أو الدفق العاطفيّ. وللحظةٍ تلكّأتُ في طلب تلك البقعة، لأنّ سيّدة، نزيلة الفندق، كانت تجلس هناك. فلعلّها ترى في رغبتي تلك ضرباً من التطفّل أو اختراقاً لوحدتها أو رغبتها في الانفراد. ومع ذلك أَقدمتُ لأَلقى من الأُستاذة زينه ترحيباً ولطافة، حتّى إنّه بعد نصف ساعة أو أكثر، من التعارف والحديث الحارّ المتبادَل، شئتُ النهوض لمتابعة عملي، فرغبت إليّ برقّة أن أَبقى جالساً معها. هي أُستاذة علم اجتماع في مدرسة راقية، وتقطن في الجبل، ممشوقة القامة، ذكيّة العينين، مهمَلَة الشعر، لبقة الحديث، طيّبة المعدِن، مهذّبة اللفتات، ويحلو الحديث معها لصدقها المنبعث من أَقوالها العامرة بالتلقائيّة والبساطة. وبعد، فإنّ من القلب إلى القلب سبيلاً، والنفوس الصادقة المخلصة لا تجد صعوبة في الانفتاح على بعضها وفي التخاطب الحرّ في جوٍّ من الثقة والمودّة، وكأنّها كانت تعرف بعضها منذ زمن بعيد، وها هي تلتقي لتتبادل الرأي وتستذكر الأَماكن والأَشخاص، ولتجدّد العهد بمعاودة اللقاء. ربّما هذا هو لقاء عابر، لن يجد تجديداً ولا معاودة، وربّما أَفضى إلى ما لا أَدري من التعارف الوطيد؛ على أنّه يظلّ، أيّاً يكن مآله، مسرى عبيرٍ إنسانيّ زكيّ لطيف، يُنعش النفس ويجمّل اللحظة، وكم في أَمثال هذه اللحظات العابرات من ذكرى مرهفة.


(7)
السبت 29 آب 2015
وداعـاً صنّين


يبدو أنّ سطوريَ، وأنا حالٌّ في صنّين، قد اكتمل عَقْدها واكتفت بما صارت إليه. فحاليَ من حال الفنّان ما زال يسكب أَلوانه على قماشة اللوحة ويضيف خطّاً ههنا ورتوشاً هناك وتعديلاً للون هنالك؛ إلى أن يحين وقت يشعر فيه أنّ عمله قد تكامل، وأنّه يتوجّب عليه أن ينفض يده من اللوحة وألاّ يزيد عليها أيّ شيءٍ، فهي أخذت سَمْتها، وما عليه سوى كتابة اسمه أسفلها ووضع التاريخ. الطبيعة حولي زاهية، والنسيم منعش، والهدوء البالغ يلفّ المكان فكأنّ هذه البقعة يغشاها الخشوع، وتكحّل عيونَها الخُضْرةُ، وتلتحف بسماءٍ زرقاءَ صافية؛ وبين حين وحين تكسر الهَدْأة سيّارةٌ مصعِّدة، لكنّها تنساب فوق الإسفلت في غير تسرّع، فكأنّ صاحبها يراعي حُرْمة المكان وجلال الطبيعة الساجية. هما يومان إضافيّان وأَبرح الأوتيل هابطاً بيروتَ التي تشهد هذه الأَيّام حِراكاً شبابيّاً وشعبيّاً قلّ نظيره. إنّ ما يجري في لبنان يعطي الدليل القاطع على طليعيّة هذا البلد. إنّ قيادات جديدة تتوالد، ومبادرات ذات طابَعٍ ثوريّ تغطّي الساحة. وأنا مساءً أَتسمرّ أمام شاشة التلفاز، لأُتابع ملامح هذا الحراك وأُصغي إلى تحليلات شبابه الممتلئين ثقةً ووعياً ونظرة مستقبليّة ثاقبة. والشعارات المرفوعة بعضها صائب وفي موضعه وتمامه، وبعضها يحتمل الخطأ ويذهب في شططٍ غير مدروس وفي فهمٍ مجّانيّ. ولا أَدري لماذا تمنّع أَقطاب الحراك عن تلبية دعوة رئس الوزراء، تمّام سلام، إلى الحوار معه. فعن طريق المسؤول الأَوّل في الدولة، راهناً، وهو صادق النيّات في ما أَحسب، ويدلّ كلّ يوم على بُعْدِ نظرٍ ومسؤوليّة، ودوره التاريخيّ الآن مشهود له فيه، يمكن الوصول إلى حلولٍ يمليها الشارع المنتفض على نحوٍ مذهل ويدعو إلى الإعجاب. فمن المترقّب أن تشهد بيروت اليوم، السبت 29 آب، تظاهرة عظمى في ساحات رياض الصلح والشهداء والنجمة؛ وهي تظاهرة كبرى حاشدة، يعمل لها الشباب بمختلف تنظيماتهم، وستكون، كما هو منتظر، علامة تاريخيّة فارقة في تطوّر هذا البلد، الذي كان على الدوام، في نطاق الوطن العربيّ الكبير، سبّاقاً في طرح الأَفكار التجديديّة والعَلْمانيّة واليساريّة. لهذا كلّه فإنّ هذا الحراك الشعبيّ، بعيداً عن الأَمانيّ والأَوهام والأَحلام، ينبغي، في رأيي المتواضع، أن يسعى إلى الفوز بمكسب واحد أحد، إبّان هذه المرحلة التاريخيّة، وهو إلغاء الطائفيّة قَدْرَ الإمكان وترسيخ العَلْمانيّة قَدْرَ الإمكان أيضاً، وإنجاز قانون انتخاب عصريّ قائم على النسبيّة. إن أمكن هذا الحراك أن يحقّق هذه الخطوة الفاصلة يكن عندئذٍ قد نقل لبنان من حالٍ إلى حال.


الشمس اليوم يغلب عليها الوسن، فهي فاترة لا حماوة فيها، ويغالبها الغيم فيطفئ أَلَقها وينقشع عنها فتعود إلى ضيائها، لكنّه ضياء عابر ما إن يبدو حتى يخبو. وسألت فاديا عن الحرارة، وظننتها ستنظر في الأُفق ثم تقدّر؛ ولكم كان عجبي عندما استلّت من الجيب الخلفي لبنطلونها هاتفاً ذكيّاً وتكتكت فيه، ثم أَرتني صفحة الطقس وهي تحمل عن الحرارة درجة 16. هذا الهاتف أَضاف إلى حامله إنساناً جديداً، فما كان يخطر لي في بالٍ أنّ هذه المرأة الطاعنة، التي تعمل في الأوتيل في التنظيف وفي المطبخ وفي تلبية الطلبات، وتغلب عليها البساطة والروح المرحة وترفع الكُلْفة مع هذا وذاك، يمكن أن يكون في حوزتها هاتف كهذا، بَلْهَ أن تنجح في استعماله وتقليب صفحاته والإجادة في التمرّس به. وما لي أَنسى كونسيرج بنايتنا في بيروت، فأبو عبدو، وهو سوريّ كان يعمل في "سوكلين" خلال شارعنا، ثم استغنى عن شركة التنظيفات هذه وآثر العمل معنا، مع أنّ أَجره عندنا في البَدْء كان تقريباً نصف ما كان يحصّله من الشركة، لكنّه أَمّن عندنا مسكناً ورعاية وحدباً وصداقة. المهمّ الآن أنّ أبو عبدو أُمّيّ لا يقرأ ولا يكتب أبداً، لكنّه، كما لاحظتُ، منفتح العقل، دؤوب على العمل، يلبّي الجميع، ولا يتراجع عن تصليح ما قد يطرأ في البناية من أَعطال. وبسبب الثورة في سوريا، وما لحق بقريته تل الرمّان قرب حلب، من خراب أحدثه النظام، لأنّ أَهلها مناهضون للظلم والديكتاتوريّة، الرابضة على صدر البلد الشقيق؛ فقد جلب أبو عبدو عائلته، المكوّنة من الزوجة ومن بناتٍ ثلاثٍ وصبيَّيْن، إلى حِمى بنايتنا. لكنّه عرف بمهارته كيف يهيّئ لهذه العائلة مسكناً، في قبو البناية، يشتمل على كلّ ما تحتاجه العائلة من وسائل العيش المقبول. واشتغلت ابنته الكبرى، صابرين، في صالون نسائيّ، ثم تزوّجت وهي تحيا هنيّة في فقرا حيث يعمل زوجها؛ وابنته الثانية فاطمة، ماهرة في رسم الفساتين النسائيّة، وشجّعتُها في هذه الهواية وأَمّنت لها دفاتر رسم مناسبة؛ وابنته الثالثة، بشرى، تشتغل في معمل خياطة. لا أُريد أن أَستفيض أكثر، لكنّ أبو عبدو، على أُمّيّته، يحمل في جيبه منذ زمنٍ هاتفاً خلويّاً ذكيّاً يدرك كيف يستعين به بمهارة واقتدار؛ والذي لاحظته عليه أنّه تحوّل عندنا وفي لبنان من إنسانٍ ساذَج ربّما وبسيط، إلى آخَرَ متقنٍ للأُمور ويعرف كيفيّة التصرّف باستنارة ومسؤوليّة.


أُودّع صَفَحاتي هذه وكلّي حبورٌ للأَيّام الجميلة التي أَمضيتُها في أَحضان هذا الجبل الذي لا أَملّ من التردّد عليه كلّ صيف، أَقبس الصحّة من هوائه العليل ومُناخه الذي يجلب العافية، كما يتيح لي أن أَنصرف إلى عملي الأدبيّ قبل الظهر في باحة المقهى الفسيح، وبعد الظهر في شرفة غرفتي أو داخل غرفتي إذا ما اشتدّت البرودة وانتشر الضباب. وَدَاعاً أيّها الجبل المضياف، أَتركك الآنَ لأَعود إليك لاحقاً؛ فالمكان العذب مدعاةٌ للحنين، ويظلّ ناصعاً في القلب والذاكرة. أَهْبُطُ بيروتَ وقد تزوّدت ذخيرة من المناعة الصحيّة، أُجابه بها الشتاء القادم والبرد القارس والرطوبة التي تغزو الجسم بلا استئذان. وداعاً صنّين.


(صِنّين/ 16 ـ 31 آب 2015)

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم