الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

بالصور- تلميذات يشاهدن الموت يومياً...المدرسة جارة المقبرة

المصدر: طرابلس - "النهار"
رولا حميد
بالصور- تلميذات يشاهدن الموت يومياً...المدرسة جارة المقبرة
بالصور- تلميذات يشاهدن الموت يومياً...المدرسة جارة المقبرة
A+ A-

 في مبنى قديم من ثلاث طبقات تقوم مدرسة "التقدم الرسمية للبنات" في محلة باب الرمل في مدينة طرابلس، وتعلو مدخلها الخارجي عبارة خجولة تفيد أن المبنى أنشئ سنة ١٣٥٦. لا تذكر اللوحة إن كانت هجرية أم ميلادية. لكنها بالطبع هجرية، فقد شيّدت هذه المحلة أواخر العصر العثماني حيث لم تعتمد السلطنة إلا التقويم الهجري، ولم يكن من ضرورة لذكر ذلك.


ونحن في السنة ١٤٣٧ هجرية، يعني ان عمر المبنى يزيد على الثمانين عاما. ولأن العمر الهندسي لمادة الإسمنت هو في أحسن أحواله ثمانين عاما، فإن المبنى تجاوز حدود العمر المسموح بها هندسيا، ولم يفكر أحد بخطورة إبقاء مئات التلامذة فيه. لم تتساقط منه رقع اسمنت، ولم يفتكر أحد باحتمال تعرضه لمخاطر السقوط والانهيار. لكن الحقيقة المرة أنه تجاوز حدود عمره البنياني، وبات آيلا للسقوط بالمنظور العلمي الهندسي، وتدرس فيه مئات الفتيات يوميا.


يرتضي المسؤولون أن يكون المبنى مدرسة، وهي قيد التداعي. مضى على تخصيصه كمدرسة ما يزيد على سبعين عاما. لم تكن السبعون كافية لتدارك الأمر، والبحث عن حل آخر يقي الأطفال والفتيات مخاطر القدم، ويؤمن لهم المكان اللائق والصحي لنيل العلم المطلوب.


مدخل المبنى معتم، ودرجه مرمم، وغرفه متلاصقة ومتداخلة، لكن بالتأكيد، قليل منها تدخله الشمس بحسب ما ذكرت بعض الأمهات. وثمة إشارة تضاف إلى اللوحة الخارجية التي تشير إلى عمره، وهي حماماته التي تعرف بالحمامات العربية التقليدية التي يعتمد فيها على حفرة مبلطة بالأرض، من دون كرسي قعود.


يفيد بعض التلامذة أن عدداً من الحمامات جرى تجديده، وركزت فيه مقاعد عالية إفرنجية، لكن الترميم لم يطل البعض الآخر. الأموال متوافرة لكل شيء، لكن ليس لتحسين حياة الناشئة، والأجيال الجديدة من فقراء الأحياء المهمشة، خصوصا منهم الجنس الضعيف. كأنما يتأكد في القرن الواحد والعشرين ما اعتمده الناس في القرون الوسطى أن الفتيات للإنجاب ولا ضرورة لهن للعلم.


يحف بالمدرسة حوانيت وباعة ومهنيون من كل الأصناف: حدادو سيارات، ميكانيكيون، مناشر خشب، مقاه شعبية، و كثير آخر على الفتيات أن تعبرن يوميا بينها قبل الوصول إلى المدرسة صباحا، وإلى البيت بعد الدوام، أما خلال النهار فلا تكف القرقعة والضجيج عن دخول الصفوف من غير استئذان.


ولو عرفنا مكان إقامة المدرسة لعرفنا شيئا هاما وعميقا عما ستهجس به بنات اليوم - أمهات المستقبل - من افكار سوداوية وأحلام محبطة، فالمدرسة تقوم على حافة مقابر مترامية المساحة تحتوي كل الراحلين من أبناء مدينة كبيرة الحجم والعدد، وعريقة في تاريخيتها، وقدمها.


مدافن باب الرمل تشكل مساحة واسعة في المنطقة، ومدرسة "التقدم" تطل على آلاف المدافن والأضرحة، والطالبات يتمتعن بمنظر المقبرة وهن في الغرف على مقاعد الدراسة، ويتفرجن على المدافن، وعلى طقوس الدفن شبه اليومي، وهن يصعدن أو ينزلن من الدرج إلى ساحة المدرسة الصغيرة التي لا تتجاوز المئة متر. كأن المدرسة أقيمت على حافة المقابر لتذكر الطالبات في كل لحظة باحتمال الموت، وليشوب حلم كل منهن انسداد افق الحياة.


على مدخل المدرسة لحظة الانصراف، نستوقف فتاة في الحادية عشرة من عمرها، تحمل محفظتها، عائدة الى منزلها، تقول عن تجاور المدرسة مع المقابر:"والله عاملتلي كابوس، بضل احلم احلام بشعة، بخاف نام اذا مافي ضو، بس تعتم ما بتخيل الا الاشباح والاموات متل افلام الرعب".


ومن خلال تلاصق المدرسة بالمدافن، يعمد بعض الأشخاص المتشردين الذين لم تتوافر لهم سلطات تجبرهم على التعلم حتى نهاية المرحلة المتوسطة وفق الدستور اللبناني، إلى القفز إلى الساحة من فوق الجدران المنخفضة القريبة من المقبرة، يسرقون ما تطال أيديهم، ويستعيرون من أغاني العصر الرائجة، بعض العناوين، كل يوجه منها لحبيبة مفترضة من الطالبات، بعض الشعائر الغرامية على جدران الملعب.


وبين غرام التفاهة الموهوم والموت المنتظر في كل لحظة تذكِر به المدافن، تتأرجح مخيلات فتيات اليوم- أمهات المستقبل. فأي وطن يريد المسؤولون؟ أي رؤىً لفتيات المستقبل يهيئون؟


ترتاح بعض الأمهات أن إدارة المدرسة تمكنت من الحصول على بعض طلاء أسود غطت به عبارات الشعر البراقة التي اختفت وتالياً لا رجوع معها إلى الغرام الزائف. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم