الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

غريغوار كان صديقي المدني العلماني

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
غريغوار كان صديقي المدني العلماني
غريغوار كان صديقي المدني العلماني
A+ A-

كنتُ صاعداً في أحد الأيام من أزمنة الحرب العتيقة الصعبة، إلى جبل لبنان الشمالي، عندما التقيتُ به واقفاً على الطريق، منتظراً في الحرّ الشديد، سيارةً تقلّه إلى حيث كان يقيم مخيّماً اجتماعياً للشباب في أعالي تلك المناطق النائية.


لم يكن ثمة شيء لافت يدلّ عليه، سوى وجهه النوراني اللطيف، الأقرب إلى وجوه المرسلين، المتواضعين، الخفرين، المبتسمين، شبه الحفاة.
لم يكن يضع صليباً مذهّباً على صدره، ولا كان يرتدي اللباس الحبري الأحمر، ولا أيضاً جبّة الكهنة، بل الثياب الذي يرتديها الناس العاديون.
ما كان أجمل ذلك النهار! لم أكن لأتصوّر أن ذلك الرجل المتواضع الواقف منتظراً، عند حاجزٍ للجيش اللبناني في تلك المنطقة، سيكون هو نفسه ذلك المطران البهيّ الذي لطالما أقلق السلطات الدينية الصنمية، وأشعرَ أحبارها بأن الكراسي تهتزّ من تحتهم، وبأن المسيح لن يكون يوماً مسيحهم بل مسيح الفقراء النبلاء!
لم يساورني في تلك اللحظة، أنني سأرى بأمّ عيني، الشخص الذي تنطبق عليه "الطوباويات"، والذي يجسد في شخصه وفي اختباراته، صورة المساكين بالروح والفقراء والعطاش والجياع. وأيضاً الشخص الذي تنطبق عليه شخصية المتمرد على الأصنام والثائر على بطريركية السلطات الاستبدادية، في كل معانيها ودلالاتها.
إنه غريغوار، أيها الأصدقاء. هو نفسه، هذا الذي تخلّى منذ عقود كثيرة عن المناصب والمظاهر والدنيويات والوثنيات، ليبحث عن الله في الإنسان.
يحلو لي الآن أن أسترسل في تصوّر مأتمه، شبيهاً بتواضع الحياة التي عاشها، لا على صورة الاحتفالات والمباهج والأعراف الدنيوية الباذخة والوثنية، التي حوّلت رجال الدين وحياتهم المرفهة وكنائسهم وطقوسهم إلى مقبرة مدنسة للدين.
لكنْ، ما لي وللاسترسال في التصوّرات والتداعيات. فلأعد إلى بيت القصيد: الشاعر الذي كان يجلس بجانبي في ذلك المشوار، صديقي عبده وازن، دعاني إلى التوقف عند ذلك الحاجز، هاتفاً بي، كما لو أنه في رؤيا: إنه غريغوار حداد، مطراننا المدني العلماني.
جلس غريغوار إلى جانبي، بعدما أخلى له الشاعرُ مكانه. لا أزال في هذه اللحظة بالذات، أرى ابتسامته الحبيبة تكلّل وجهه النوراني، ولا تغيب عن بالي تفاصيل الحديث الذي كان وليمتنا في تلك النزهة الروحية الفريدة من نوعها.
يكفيني يا غريغوار، أنكَ صرتَ من ذلك اليوم، صديقي المدني العلماني.
ويكفيني أنني قبّلتُ يدكَ في ذلك اليوم، باعتباركَ حبيباً لقلبي وحياتي. تعلم جيداً أيها الصديق البهي، أنني لا أقبّل الأيدي أياً تكن منازل أصحابها ومراتبهم، فكيف إذا كان مطراناً أو رجل دين.
وإذا من عزاء، ففي أنه قد بات عندنا الآن "غريغوار عظيم" يمشي في ركاب مسيحه، هو صديقي الأعزّ، فرنسيس، الجالس على كرسيّ روما، لا باعتباره صنماً دينياً، مزدهياً بالمرفّه من العيش، ومختالاً كالطواويس في الأبهة الوثنية، وفي الفخم من الثياب، بل باعتباره انساناً متواضعاً رسولاً في الأرض، يزرع الأنسنة والخير والحبّ والأمل والجمال والفرح في العالم الحزين وفي نفوس المحتاجين إلى العزاء!
يكفيكَ يا غريغوار، أنكَ مسيحٌ أرضي، ويكفيني أنكَ صديقي المدني العلماني!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم