الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

رحيل - شيخ الروائيين المصريين إدوار الخراط كان طليعياً ودائم التنبه إلى الجديد

عقل العويط
عقل العويط
رحيل - شيخ الروائيين المصريين إدوار الخراط كان طليعياً ودائم التنبه إلى الجديد
رحيل - شيخ الروائيين المصريين إدوار الخراط كان طليعياً ودائم التنبه إلى الجديد
A+ A-

غاب أول من أمس الإثنين، شيخ الروائيين المصريين إدوار الخراط. كان هذا الكاتب الطاعن في السنّ مملوءاً بالفتوّة والنضارة، وهو بقي هكذا حتى أعوامه الأخيرة، حاضراً في الرواية والنقد والنقاش الأدبي، قبل أن يدهمه المرض الذي أخذ ذاكرته إلى النسيان.


لم يكن إدوار الخراط كاتباً عادياً، ولا ناقداً عادياً، ولا شخصاً عادياً. هذا الذي ولد في 16 آذار من العام 1926، كان حتى الأمس القريب، قبل أن يدهمه المرض العضال في سنواته الأخيرة، شاباً بكل ما في الكلمة من معنى. لا أقصد الشباب روحاً فحسب، بل شباب العقل، وفتوّته، وقدرته على التكيف مع المعطيات والمتغيرات، في الأدب وفي الفن وفي النقد، كما في الحياة على السواء.
هذا ما يجعلني أقول في شأنه إنه لم يكن كاتباً عادياً، ولا ناقداً عادياً، ولا شخصاً عادياً. مَن يكون في مثل عمره، من الصعب جداً أن لا يشعر بالاكتفاء والطمأنينة والمراوحة القاتلة. هو، لم يكن من هذه الطينة. فقد كان فضولياً، متعطشاً، نهماً، ومشغوفاً، باحثاً على الدوام، عما يجدّد ذاته وأدبه، ويتطوّر به، متقبّلاً الرياح والمتغيرات، ومستقطباً الأجيال المصرية الجديدة، حانياً عليها، مرافقاً لها، صديقاً للآخر الجديد، الفتيّ، المشاكس، المضاد، والمختلف.
لمَن لا يعرف إدوار الخرّاط جيداً، يجب أن يعود إلى كتاباته الروائية والقصصية، ليجد في طيّاتها سيرةً مضمرة، لذلك المناضل اليساري الشاب الذي شارك في الحركة الوطنية الثورية في الاسكندرية، واعتُقل وسُجِن، وبقيت شعلة الثورة والتمرد مجمّرةً في روحه الشابة، وفي كتاباته الروائية والنقدية والفنية، كما في ملاحظاته، ومرافقاته، وضحكته الذكية، الطيبة والمراوغة.
ولمَن لا يعرفه جيداً، يجب أن يدرك أن الخرّاط كان يقف على الضفة المقابلة من الأدب الذي صنعه نجيب محفوظ، من حيث التزام هذا الأخير الواقعية الاجتماعية في كتابة الرواية. فقد رفض الخراط هذا النوع من الكتابة، مولياً الاهتمام للرؤية الداخلية، وللبنية المركّبة، الآخذة بتحولات البنية في الرواية العالمية، كما المشغولة بالحقيقة الذاتية في الأدب. وليس كثيراً أن يوصف هذا الكاتب الكبير بأنه أبو "الحساسية الجديدة" في الرواية المصرية، متسللاً بحنكة روائية خلاّقة، إلى أعماق مدينته الاسكندرية التي كتب فيها أجمل ما كتب، ووالجاً إلى البنى العميقة للروح الجمعية القبطية، كما إلى الأرواح المضطربة، المهجوسة بالقلق والخيبة واصطراع اليأس والأمل، واصفاً عوالم القهر والاضطهاد والظلم والفساد، ضمن بنية روائية متحركة.
ينبغي التذكير بأن ثقافته الموسوعية مكّنته من أن يُدرج في روايته أبعاداً رمزية، أسطورية، فرعونية، قبطية، يونانية، إسلامية، ليجعل منها بناء روائياً يستعين بالتراث ليخاطب العصر، ولغته وهواجسه ورؤاه.
صديقي إدوار الخراط، كان قد "انتهى" عملياً من هذه الحياة، عندما أصابه مرض الزهايمر. لكن المسألة ليست هنا على الإطلاق. فهذا الرجل الذي ولد في الاسكندرية، لعائلة قبطية من صعيد مصر، درس الحقوق وحمل شهادة فيها، ليعمل في مخازن البحرية البريطانية، فموظفا في البنك الأهلي، فموظفاً في شركة للتأمين، ثم مترجماً في السفارة الرومانية في القاهرة، فعضواً في منظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية في منظمة الكتاب الإفريقيين والآسيويين، لينصرف في ما بعد إلى الكتابة والنقد والترجمة.
كتب الكثير في القصة والرواية، والنقد الأدبي والفني، وترجم كثيراً. من أعماله الكبرى، "حيطان عالية"، "رامة والتنين"، "ترابها زعفران"، "يا بنات اسكندرية"، "الزمن الآخر"، "أضلاع الصحراء"، "يقين العطش"، "طريق النسر"، "صخور السماء"، "حجارة بوبيللو"، "الغجرية ويوسف المخزنجي".
قبل أعوام، كنتُ أقف في رتلٍ أمام إحدى صالات السينما في الحي اللاتيني، عندما لمحته أمامي، وزوجته، واقفاً في الصفّ نفسه، لحضور الفيلم نفسه، وسط جمعٍ من ذوّاقة السينما من الأعمار كافةً. لم أعرف كيف أهتف باسمه عالياً، ليصبح وجوده في ذلك الفضاء الباريسي، في تلك اللحظة الليلية بالذات، نوعاً من الاحتفاء بالهواء المشترك والذوق المشترك.
عندما زارني، في بيتي المشرف على البحر، تعشّينا، وشربنا العرق، واحتفلنا بالحياة التي أحبّها هذا الكاتب العجوز الكبير حباً جمّاً، لطالما عبّر عنه ببقائه إلى جانب الأجيال الأدبية والفنية الشابة في القاهرة، في الأدب كما في جلسات الحياة.
صديقي إدوار الخراط كان شيخاً للرواية المصرية، لكنه كان، باعتزاز شديد، حاضراً بوجدانه الأدبي الشاب في ضمير الحياة الأدبية المصرية الراهنة. له الاعتزاز والوفاء!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم