الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

من بيروت إلى باريس، الحزن الانتقائي

حليم شبيعة
A+ A-

بعد الهجمات الإرهابية التي هزّت العاصمة الفرنسية نهار الجمعة 13 تشرين الثاني الجاري، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي، كما كان متوقعاً بطبيعة الحال، وابلاً من التعاطف وعلامات التضامن مع باريس والشعب الفرنسي.


بيروت أيضاً كانت قد ذاقت مرّ كأس "داعش" قبل يوم فقط من هجمات باريس. ففي 12 تشرين الثاني، فجّر انتحاريان حزاميهما الناسفين في منطقة سكنية في الضاحية الجنوبية في بيروت. وكانت حصيلة التفجير وفاة 43 شخصاً وجرح أكثر من 250 مدنياً.
كشف وزير الداخلية نهاد المشنوق أنّ الانتحاريين الأربعة أو الخمسة كانوا يستهدفون أصلاً مستشفى الرسول الأعظم في المنطقة. ولكنّ الإجراءات الأمنية المكثفة في محيط المستشفى أفشلت خطّتهم، فاختاروا تفجير أنفسهم في منطقة تعجّ بالسكان في ساعة الذروة.
لم يرُق لبعض الأشخاص ردّ الفعل المختلف للإعلام العالمي على هجمات باريس بالمقارنة مع الهجمات التي تحصل يومياً في العالم العربي وفي نواحٍ أخرى من العالم. ففي الواقع، العراق أيضاً كان قد شهد وفاة 18 شخصاً نتيجة تفجير أحد انتحاريي "داعش" نفسه— وفي اليوم ذاته الذي وقعت فيه أحداث باريس.
لم يكُن هذا الانتقاد لانتقائية الإعلام موجهاً ضدّ أحقّية الوقوف الى جانب الشعب الفرنسي في مواجهته للنتائج المأسوية للتطرّف الوحشي الذي يعكس إيديولوجيا تتلاعب بمفهوم الدين لتوظيفه في تبرير إرهابها الشنيع. ولكنّ بيت القصيد كان في التغطية الإعلامية من ناحية استعمالها مصطلحات معيّنة وسردها الخاصّ في تفسير الأحداث. وقد أصاب حبيب بطاح في مقاله على موقع "الجزيرة" حين كتب، "لعلّ ما يزعج أكثر من تغييب هجمات بيروت عن ساحة الغضب الدولية هو عدد التقارير الإخبارية الغربية التي سعت إلى تصنيف الضحايا اللبنانيين بدلاً من بكائهم." وفي كلامه عن "تصنيف الضحايا" إشارة إلى أنّ الهجوم الانتحاري وقع في ما سُمّي في وسائل الإعلام الأجنبية بـ"معقل حزب الله" أو "عقر دار حزب الله". وقد رأى كثيرون في اختيار عناوين كتلك محاولةً واضحة لتحجيم أثر الهجوم الانتحاري ولتجريد الضحايا من إنسانيتهم.
وكما كتبت بيلين فرنانديز في "ميديل إيست أي"، إن ما يساهم في تجريد الضحايا من إنسانيتهم وهويتهم المدنية في هذه الحالة مردّه أنّ "الأشخاص في الجهة المتلقية للهجمات قد جُرّدوا تماماً من إنسانيتهم مراراً وتكراراً". بالإضافة إلى ذلك، يفترض مثل هذا التصنيف أنّ جميع الضحايا ينتمون إلى الطائفة الشيعية، ما يبرّر وفاتهم كنتيجة مباشرة لانخراط "حزب الله" في الأزمة السورية. وحتى لو سلّمنا جدلاً بصحة هذا التبرير الضعيف وغير اللائق في حالات تستدعي اليقظة والتضامن الوطنيين، فإنّ هذا المنطق المغلوط يتجاهل أنّ الاستهداف المتعمّد للمدنيين في حالات النزاع المسلّح يُعدّ جريمة حرب من دون أدنى شكّ حسب القانون الإنساني الدولي. وإنّ المنطقة المستهدفة، بحسب فرنانديز، "يسكنها لبنانيون آخرون وفلسطينيون وسوريون وأشخاص من ديانات مختلفة واتجاهات سياسية متنوعة. هنا، تفشل أيضاً معادلة الضاحية = الشيعة/"حزب الله" في الاعتراف بالمجتمع المسيحي الصغير في المنطقة.
وعلى الرغم من أنني أؤيد تماماً ضرورة الطعن في المصطلحات التي يستخدمها الإعلام العالمي ووجوب السعي إلى معاملة جميع الضحايا بمساواة، فإنّ الجدل الممتاز الذي نشهده حول الحزن الانتقائي والمعاملة السوية للضحايا يكشف حقيقة مزعجة عن كلّ منّا، أيّاً كان موقفنا السياسي.
ما أقصده هو أنّ لبنان، ولدى إدانته بطريقة شرعية ومحقّة للحزن الانتقائي المُمارس بحقّه، ينسى ويتناسى أنّه بلد يختار انتقائياً ما يحزن عليه في كلّ يوم.
فها هو لبنان يبكي وفاة رجل على طرقاته نتيجة ملاحقة بالسيارات وتعدٍّ مرعب التُقط على الفيديو. ولكنّ لبنان نفسه لا يحزن عندما يشاهد رجلاً في فيديو يعنّف زوجته بشراسة في موقف سيارات أحد المراكز التجارية الفخمة.
ويبكي لبنان وفاة السكان الباريسيين في 13 تشرين الثاني 2015. ولكنّ لبنان نفسه لا يحزن على موت عدد كبير من العمال الأجانب انتحاراً يومياً.
ويبكي لبنان ضحايا صحيفة "شارلي إيبدو" العُزّل. ولكنّ لبنان نفسه لا يحزن لدى الاطلاع على تقارير الاعتداءات الجنسية على الأطفال ولا يتضامن مع ضحاياها عندما يكون المعتدي فرداً من العائلة أو الحزب أو الدين.
ويبكي لبنان محنة اللاجئين السوريين الذين يغرقون على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. ولكنّ لبنان نفسه لا يحزن على وجود 17 ألف شخص مفقود منذ الحرب الأهلية، لا تزال عائلاتهم تستيقظ يومياً من دون أدنى فكرة عن مصيرهم أو مكان وجودهم. كما لا يحزن لبنان بالشكل المطلوب على الجنود المخطوفين وعائلاتهم التي تعيش حالة خوف وقلق منذ شهر آب 2014.
ويبكي لبنان نلسون مانديلا وشخصيات عالمية عبر نشر عبارة RIP (أي إرقد بسلام) على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكنّه لا يكترث لمصائب الضحايا من طوائف أخرى أو من أحزاب سياسية معارضة. ففي الواقع، يبدو أنّ كلّ طرف يهتمّ فقط للجرائم التي يرتكبها خصومه محلياً وإقليمياً ودولياً. ففي سوريا مثلاً، يرتبط تضامن الإعلام مع الضحايا بموقفه الداعم للسعودية أو لإيران، وبالتالي للأسد أو لخصومه.
بالنتيجة، إذا كنّا فعلاً نكترث لحياة الناس وللروح البشرية، لكنّا غيّرنا جميعاً صورتنا الشخصية على الفايسبوك لتصطبغ بألوان العلم السوري. فوسط وفاة أكثر من 200 ألف شخص واختفاء 65 ألف شخص وتوسّع منظمة إرهابية تضطهد الأقليات وتوظف النساء والبنات كمستعبدات للجنس وترتكب جرائم قتل رهيبة، لا شكّ في أنّ وضع العلم السوري هو خير تعبير عن فعل تضامن مع الجرائم ضدّ الإنسانية التي تحصل هناك.
ولو كنّا فعلاً نكترث لحياة الناس وعذاباتهم، لكنّا أدخلنا ألوان العلم الفلسطيني في صورتنا الشخصية. فهناك، طُرد الأهالي من أراضيهم وهم يعيشون تحت الاحتلال أو كلاجئين منذ عام 1948، ولا تزال تُضمّ أراضيهم المتبقية إلى أراضي المستوطنين الإسرائيليين، في مخالفة واضحة للقانون الدولي لم تُثر غضب إلّا القلائل.
الحزن الانتقائي هو بالفعل واقع خبيث ومزعج. ولكنّ الحقيقة هي أنّنا جميعنا خبثاء، وجميعنا نحزن بانتقائية، وجميعنا نتعاطف بانتقائية.
في كشفنا خبث الآخرين، يُكشف خبثنا. وفي كشفنا الحزن الانتقائي للآخرين، يبرز حزننا الانتقائي. وفي كشفنا العدالة الانتقائية في العالم، يتبيّن لنا تغلغل واستشراء العدالة الانتقائية في مجتمعاتنا.
ويبقى أملنا في أن تسرّع الأحداث المأسوية التي وقعت الأسبوع الماضي استيقاظ قادة العالم وسكّانه من غيبوبتهم ونزولهم عن عروشهم ومسحنا لريائنا واعترافنا بعدم كفاءتنا في التعامل مع مصائب وعذابات الناس وإظهارنا التضامن بالفعل وبالقول، كلّ بحسب إمكاناته، مع جميع ضحايا الإرهاب والقمع والاحتلال والتعذيب والخطف والاختفاء القسري والاتجار بالبشر والفساد والهجرة القسرية والاعتداء الجنسي والتمييز والنزاعات المسلّحة.


أستاذ جامعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم