الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مركبٌ سكران وجهته الهاوية

المصدر: "النهار"
رلى راشد
مركبٌ سكران وجهته الهاوية
مركبٌ سكران وجهته الهاوية
A+ A-

لم يكن سَهلاً على #الكاتب المكسيكي المُتحفّظ والمُفرط على السواء فيرناندو ديل باسو أن يتآلف مع الفقد المُباغت لوظائفه الحيوية، ذلك ان السكتات الدماغية المتلاحقة التي ألَمّت به في الأعوام الثلاثة الأخيرة سلبَته القدرة على الكلام وعلى الكتابة حتى. غير ان السقم الذي أصاب النطق، السقم القاسي جدا الذي حرمه من الأداة التي "واجه بها الكاتب الحياة"، على ما وصفها"، لم يتمكّن من إطفاء ذهنه المتّقد.


ربما ستكون جائزة "ثرفنتس" للآداب 2015، التي نالها ديل باسو أخيرا، ونظرا إلى مرتبتها الرفيعة في العالم التأليفي، جسر عبوره من الصمت الى البوح مجددا، علّه يبدّد بها الغيوم الحالكة التي حامت فوق يومياته منذ فترة.


قبل أيام فحسب ركنَت الجائزة الإستثنائية إذاً إلى كاتب على فرادة بلغ عامه الثمانين ولم يلبث أن رأى فيها إعترافا هائلا بجهد بذله خلال ستة عقود، ليصير الظافر الثلاثين بالتكريم المحوري. والحال ان الشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة والبحث وسواها، مجالات كثيرة تصدّى لها الكاتب ليكسب من طريقها صيت الحرفي الذي يشيد كتبا دقيقة ورفيعة. وفي حين خصص عملا مسرحيا لفيديركو غارسيا لوركا وبحثا لثرفنتس، أجاد في الجمع بين التقليد والتجريب.


يعدّ ديل باسو، في ضفة أميركا اللاتينية، سليل بورخيس وغارثيا ماركيز وصديق الراحل مواطنه كارلوس فوينتس، وهو أيضا وعلى نحو ما، في الضفتين الأوروبية والأميركية الشمالية، إمتداد لنص جويس وفولكنر ورابليه وفلوبير وآخرين. وبينما يعلن التحاقه بـ "ذيل تيار الفورة اللاتينية" الذي عُرف بـ "بوم"، فإن ذلك لا ينفي إصداره روايات رمزيّة لحقبته تشكّلت من ثلاثية "خوسيه تريغو" و"بالينورو ابن مكسيكو" و"أخبار الأمبراطورية"، تطلّبت كل نافذة منها أكثر من عشرة أعوام من العمل الجاد، وكرّسته كأحد أبرز الباحثين والناثرين في أميركا اللاتينية.


يصنّف ديل باسو ضمن أسماء "بوست بوم" أي المرحلة اللاحقة لتيار الفورة الأدبية اللاتينية والحال انه أتى مع مجايليه بنصوص على خصوصية إستخدمت ثيمات شعبية ولاذت بوضعية تأليفية حيويّة.


بحسب التصنيف الزمني تعتبر "بالينورو ابن مكسيكو" (1977) رواية فيرناندو ديل باسو الثانية، وهي روايته المفضّلة أيضا. وإذا كان النص يقصّر في الإتيان بتفسير أو بحبكة يعبّر عنهما على نجو جلي، غير انه يتراءى حكاية حبّ بين عاشقين هما طالب الطبّ بالينورو من جهة أولى والممرضة إستيفانيا من جهة ثانية، يصرفان الجزء الأوفر من وقتهما في محاولة إعادة تشكيل الهياكل العظميّة من طريق مجموعة عشوائية من العظام. تدين الرواية إلى مناخ تسلوي يقترب من منطق الكاتب الفرنسي رابليه ويفيض في استدعاء الألعاب اللفظيّة والصور السوريالية بدءا من التاريخ ومرورا بالفن السابع.


يقدّم النصّ براهين على هذا الأسلوب المتّسم بالفرادة فنقرأ "زارت العمة لويزا في أحد الأيام "لا تور دو ميرفييو" (برج العجب) الذي كان منزلا في المقلوب: كان مدخله عند العليّة، في حين وصل المرء الى الطبقة الثالثة وبعدذاك الى الثانية وثم الأولى، وهكذا دواليك إلى حين بلوغ الطبقة السفلى وثم الطبقة الأرضية. جرى تعليق الأثاث والسجادات في السقوف وبرزت المصابيح في وسط الشقة كأنها ينابيع من الكريستال. كان يسعنا رؤية باريس بالعكس. (..) أما حُبّنا فلم نستطع أن نقيسه البتة، ذلك انه كان لا متناهٍ".


يُشبه بالينورو صانعه ديل باسو على نحو ما، والحال ان الكاتب إلتحق بكلّية الطبّ قبل أن يتخلّى عن الدراسة لعدم قدرته على مخاواة الجثث، ويقول ديل باسو في هذا الشأن "بالينورو هو الشخص الذي كُنته والذي رغبت في أن أصيره والذي ظنّ الآخرون أني عليه وهو أيضا الشخص الذي لم أستطع أبدا أن أصيره، على رغم رغبتي في ذلك".


جسّد بالينورو الفكر الثوري لجيل شاب واجه الحكومة المكسيكية في سبعينات القرن العشرين مطالبا بمزيد من المشاركة الديموقراطية وأصرّ على توفير الحلول لمشاكل المكسيك المتجذّرة. وفي كتابه "أخبار الأمبراطورية" تمهّل ديل باسو مجددا عند شجون وطنه "بلاد المناخات الثمانية عشرة والبراكين الأربعمئة والفراشات الكبيرة كالعصافير والعصافير الصغيرة كالنحل". نظر إلى مطرح "حيث يمكن حصول كل شيء ولا يحصل أي شيء".
ديل باسو المؤمن ان حرية الصمت هي واجب الكاتب الأخلاقي حين لا يملك ما يقوله، تكلّم في أعقاب نيله جائزة "ثرفنتس" للآداب.
تحدّث ليصف قدرا مكسيكيا راهنا عنى الإنزلاق نحو الخَطر.
رأى وطناً يزرع اليأس في نفوس معظم مواطنيه ويحصد فقد التوازن كمثل مركب سكران وجهته الهاوية.
رأى وطنا صار يُشبه أوطانا إنتحاريّة كثيرة.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم