الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الوجوه المتعدّدة لأنور السادات في كتاب لروبير سوليه

سوسن أبوظهر
الوجوه المتعدّدة لأنور السادات في كتاب لروبير سوليه
الوجوه المتعدّدة لأنور السادات في كتاب لروبير سوليه
A+ A-

قلما قدم كتاب وفرة من المعلومات، حتى في هوامشه، وحفز القارئ على مقارنة الروايات المتعددة التي يوردها، كأنه باحث كما المؤلف في خفايا شخصية مثيرة للجدل. أمامنا أنور السادات، نحاول فهمه في زمن الضباب المصري الوارث للسلام الشكلي والانفتاح الاقتصادي. بعد سنتين على صدوره بالفرنسية، نقرأ عمل الصحافي والروائي الفرنسي المصري الأصل روبير سوليه المعنوَن "السادات" معرَّباً من دار "هاشيت أنطوان".


قال الكاتب لـ"النهار" إنه وضَعَه لأن لا مؤلف عنه بالفرنسية، وما كُتب بالعربية والإنكليزية يتأرجح بين التقديس والتحقير، بينما هو كان "رجل دولة اتخذ قرارات تخالف التيار"، و"عُمدة" أدار البلاد كقرية.
يكتشف القارئ الكثير. لقب العائلة كان الساداتي وبدّله أنور عام 1952. نجل الأفندي محمد من زوجته السابعة، أُرسل إلى مدرسة قبطية بعد تلك القرآنية. وكان للعسكري الشاب صداقات في القصر الملكي. هو فلاح متدين لامسَ الصوفية وسجل صوته يُجوّد القرآن. كان ثلاثينياً خارجاً من السجن وأنشد لجيهان رؤوف، وهي في نصف عمره، أغنية لفريد الأطرش. رأته بطلاً، أحبته وأقنعت والدها وأمها البريطانيه به فتوليا مصاريف الزواج، ومرت أيام "لم يتبق لنا نقود لشراء الفاكهة وشعرتُ بالجوع للمرة الأولى"، كما تروي.


رجل الصدفة
أمامنا شخص اعتمد الواسطة للصعود، مرة لدخول الكلية الحربية وثانية للعودة إلى الجيش بعد اتهامه بمساعدة جواسيس نازيين والتخطيط لاغتيال وزير المال السابق أمين عثمان، وانتهج الغش للترقية إلى رتبة رائد. أُعجب بغاندي وأتاتورك وهتلر، وحسن البنا، ورآه "قائداً دينياً" و"مصرياً صميماً" وتقرًب منه واستخدم علاقاته.
النظرة إلى السادات متباينة إلى حد التناقض بين محبيه وكارهيه، حتى بناته من زواجه الأول. وتنقّل كثر من الاستهزاء به إلى الانبهار، واللائحة تشمل هنري كيسينجر ونجيب محفوظ. الشخص الوحيد الذي لم يتراجع عن الإعجاب به هو جيهان، وليس مصادفة عودة سوليه إليها ليختم الكتاب.
تدفع الموضوعية الكاتب إلى إيراد كل الآراء، وإن ركًز على محمد حسنين هيكل، "عدو السادات"، أكثر من أصدقائه الصحافيين موسى صبري وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور. والسادات نفسه ناقض ذاته، إذ كان يبدل روايته للوقائع، خصوصاً بعد وفاة عبدالناصر. كان يعلق على ما يقوله سلفه بـ"صح" حتى لقّبه الأخير بـ"البكباشي صح"، ورأى لاحقاً أن تأميم قناة السويس كان "لعباً بالنار". ويُعجب القارئ بجهد سوليه لتبيان تذبذب أنور، إذ يستعيد سرد جيهان لبعض الأحداث ليثبت مبالغات زوجها، وربما كذبه.
لكن السادات لم ينسب لنفسه قيادة أحداث 22-23 يوليو 1952. استدعاه عبدالناصر من رفح، ولا بد أنه أدرك السبب، لكنه اصطحب بناته إلى السينما! وقد كتب عام 1957 أنه علم متأخراً أنه وَجَبَ عليه الالتحاق بمنزل عبدالحكيم عامر. وشرح عام 1978 أن عبدالناصر قصد بيته مرتين وترك رسالة بينما كان في السينما مع... جيهان. أما هي، ففي مذكراتها أنه دعا والديها إلى العرض. ويلاحظ سوليه أن "تلك لم تكن المرة الأولى يعطي الانطباع بأنه هيّأ نفسه لاحتمالَي النجاح والفشل".
إذاً تأخر ساعة ونصف الساعة يشاهد فيلماً لرونالد ريغان، ثم علم أن الضباط الأحرار استولوا على قيادة القوات المسلحة. حضورُه كأنه صدفة واستلحاق. ويستمر التناقض، يقول إن إعلان الثورة الذي تلاه في الإذاعة كتبَه عامر لينسبه إلى نفسه لاحقاً.
"شخصيته تثير الحذر أو الانزعاج"، ونقل هيكل عن عبدالناصر أنه "إذا حدث لي شيء، فإن أنور يصلح لسد الفترة الانتقالية".


"أنا الرئيس"
"الرجل يملك موهبة تفويت المواعيد الكبرى. فليلة استولى الضباط الأحرار على السلطة كان في السينما، وعندما شيعت مصر عبدالناصر رقد في سريره بعد انهيار مفاجئ" يلاحظ سوليه. وحين صار رئيساً، "تظاهر بالسذاجة ليُطمئن الذين يزعمون التأثير فيه" ليشق طريقه مناقضاً سلفه. أرجَعَ أراضي لملاكين وأطلق الانفتاح الاقتصادي وتعددية حزبية شكلية. وأثمرت مغازلته الأميركيين إعادة للعلاقات عام 1973، وتخلص من أنصار موسكو وطرد 15 ألفاً من الخبراء السوفيات، في استدارة من 180 درجة".
ويسترجع سوليه إعجاب السادات بالبنا لدى عرضه لتعديل المادة الثانية من الدستور الذي أدخل الشريعة إلى مصادر التشريع، ومهّد لسيطرة "المرجعية الإسلامية". سمح "الرئيس المؤمن" بانتشار الجماعات الدينية في الجامعات. وفتح التلفزيون أثيره للدعاة، وحُظرت الكحول في رمضان وتغاضت السلطات عن ترهيب الأقباط.
وفي المقابل، رضخ لزوجته التي عملت لتمكين النساء، فتظاهر إسلاميون ضد "حكم جيهان". المرأة "الجميلة والأنيقة والذكية والمثقفة"، ترأست المجلس الشعبي في المنوفية وأكملت دراستها حتى الدكتوراه، وحمت بناتها من الزواج القسري المبكر كأخواتهن.


"بطل" العبور والسلام
كان السادات مقتنعاً بأن "هجوماً عسكرياً محدوداً سيسمح بتحريك الوضع الجامد والوصول إلى الضفة الثانية لقناة السويس". ويعرض الكاتب بإسهاب لمناعة خط بارليف والتحضير لمعركة لم تُغفل تفصيلاً، من يوم الغفران
اليهودي واكتمال البدر وملاءمة حركة المد.
راهن على المفاجأة، و"بعد 24 ساعة كان مئة ألف رجل تمركزوا على الضفة المقابلة". وحين امتصت تل أبيب الصدمة، تكبد المصريون خسائر فادحة في "أكبر معركة دبابات منذ الحرب العالمية الثانية". وفي 15 تشرين الأول 1973، عبر اسرائيليون قناة السويس، وبعد أيام بلغوا الاسماعيلية وتوغلوا إلى مئة كيلومتر من القاهرة.
ويقارن سوليه السادات بذكاء رمسيس الثاني الذي "أمضى عهده يحتفي بنصف هزيمة أمام الحثيين". نصف هزيمة؟ ربما، فضرب أسطورة الجيش الاسرائيلي لا ينفي أن الأرض المستعادة على الضفة الشرقية للقناة أقل من التي فُقدت عند الغربية.
صيف 1977 استضاف العاهل المغربي الحسن الثاني لقاءات سرية مصرية-اسرائيلية. ولاحت فكرة مجنونة للرئيس المصري، لم لا يقوم بـ"مبادرة استعراضية" لزيارة القدس؟ وذلك وفق الكاتب، "خطوة مجانية أحادية".
و"يوم الخميس 17 تشرين الثاني، تأكد ما لم يكن ليرد في ذهن أحد. أعلن مناحيم بيغن أن السادات سيصل بعد يومين، بعد انتهاء السبت اليهودي، عشية عيد الأضحى. ورأى وزير الدفاع الاسرائيلي عيزرا وايزمان الذي صار لاحقاً مفاوضه للسادات و"أخاه الأصغر"، أنه بكلمته الهجومية في الكنيست، "نقَل رمال حرب سيناء إلينا وأطلق مدفعيته الثقيلة". لف الصمت العشاء الرسمي، "حتى ربطة عنقه رأى البعض فيها صلباناً معقوفة متداخلة".
تحوّل "بطل العبور"، "بطلاً للسلام" لمواطنيه، لكن المعجزة لم تتحقق، ونقل عنه وايزمان تلويحه بالاستقالة في تموز 1978. فتدخل جيمي كارتر عارضاً لقاء لا سابق له بين أميركا ومصر واسرائيل. وبعد 13 يوماً من العمل الشاق في كمب ديفيد و23 صياغة مختلفة، وُلد النص النهائي باتفاقيتي-إطار تلحظ الأولى انسحاباً تدريجياً من كامل سيناء والتوصل إلى معاهدة سلام، والثانية إنشاء حكم ذاتي وإداري لغزة والضفة الغربية.
وسيدفع السادات حياته ثمناً لتسوية باهظة الكلفة، حتى بالنسبة إلى هدف قومي كاستعادة سيناء الذي تحقق كاملاً في نيسان 1982 ولم يشهده الرجل الذي عمل لتحقيقه وقال إنه سيتنحى بعده.


"قتلتُ الفرعون"
بعيداً من نظريات المؤامرة عن مصلحة خصومه في تصفيته، يبدو الكاتب مقتنعاً بأن خالد الاسلامبولي لم يكن أداة تنفيذ بل العقل المدبر لعملية ثأرية بعد توقيف شقيقه محمد المنتمي إلى "الجماعة الإسلامية"، مع 1535 شخصاً، بينهم هيكل ونوال السعداوي.
خالد ملازم في سلاح المدفعية، وهو من تنظيم "الجهاد الإسلامي"، ومشارك في العرض العسكري لذكرى أكتوبر، فـ"لم لا تخرج من عربته التي تسير ببطء، مجموعة كوماندوس تُطلق النار على المنصة الرسمية؟". أُعجب قادة الفصيل بالفكرة، وكان التنفيذ سهلاً بصورة "تثير الدهشة"، من إبدال ثلاثة جنود بقناص وعضوين في "الجهاد" إلى تهريب الأسلحة. وحين توقفت العربة، ظن الجميع أنها تعطلت. كانت رصاصة القناص في عنق السادات قاتلة، وقفز الاسلامبولي إلى المنصة وأصابه برصاصتين أخريين.
قضى الرجل الذي كانت الاستخبارات الأميركية تحمي طائرته في اليوم الأحب إليه، وعلى يدي عسكري مثله. كان في القدس يوم عيد الأضحى، وجاء وداعه في عيد الأضحى، بحضور بيغن ومقاطعة عربية كسرها السودان والصومال وعُمان. مات "كأحد أفراد أسرة كينيدي"، لكنه لم يحظ بجنازة أسطورية كسلفه فكان التشييع رسمياً لمخاوف من انقلاب إسلامي.
وإذ يلاحظ سوليه أنه "لو كان للسادات شعبية ضخمة لكَسَرَ الشعب المحظور وعبَر عن ألمه بطريقة أو بأخرى"، يتجه قبيل الخاتمة إلى إنصافه بأنه "لم يكن دمية للأحداث" في الحرب والسلام. وصمَدَ "إنجازه الكبير" أمام انتفاضتين فلسطينيتين واجتياح لبنان وحربَي تموز والخليج وغزو العراق، وسقوط نظامَي حسني مبارك و"الإخوان المسلمين". ومن المفارقات أن الإسلامي محمد مرسي كرًمه في أكتوبر 2012!
لكن لا يغفر له الكاتب خطأ "اللعب بالنار" بتقوية الإسلاميين لمحاربة اليسار والناصريين و"فتح الباب أمام التطرف" وإخضاع المؤسسات والحياة اليومية لمظاهر الأسلمة. وفي حديثه إلينا، يعتبر أن السادات لم يكن مضطراً لمحاباة الإسلاميين وفعل ذلك لمنع قيام ديموقراطية. والمشير عبدالفتاح السيسي أقرب الرؤساء إليه لجهة التدين، "كلهم أحبوا البلاد والسلطة. وبقي الفساد والفوضى من ثوابت الحياة السياسية".
وعن خيبات ما بعد 25 يناير يقول إن إنجاز الديموقراطية مؤلم ويتجاوز إزالة نظام، إذ يبدأ من القاعدة كإدخال الحس النقدي إلى مناهج التعليم، لكن "المصريين تعبوا مع طغيان الهموم الاقتصادية والأمنية". أما السيسي، فـ"الديموقراطية ليست هاجسه، بل إعادة بناء الدولة ومكافحة الإرهاب، وهو ناجح في ذلك، وإن خيًب آمال صانعي التغيير عام 2011".
وسوليه القلق على وطنه الأم، متفائل بالنسبة إلى المستقبل الأبعد، بعدما أعاد الأقباط الانخراط في الشأن العام، علً ذلك يُكسب مصر ألقاً كوزموبوليتياً أضاعته.


[email protected]
Twitter :SawssanAbouZahr

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم