الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "الغوريلا" لكمال الرياحي استشراف لمآلات الثورة

كه يلان محمد
كتاب - "الغوريلا" لكمال الرياحي استشراف لمآلات الثورة
كتاب - "الغوريلا" لكمال الرياحي استشراف لمآلات الثورة
A+ A-

من يتتبع أعمال كمال الرياحي ويتعرف إلى أساليبه في معالجة الثيمات الروائية يدرك أن صاحب "المشرط" و"عشيقات النذل" يشق طريقه بقوة لبناء عالمه الخاص في مجال كتابة الرواية. فقد عثر على الأدوات التي تمده بطاقة أسلوبية مميزة، وتجعله يستثمر شحنات دلالية للكلمة والعبارات الموحية متجاوزاً حالة الافتتان بالحشو والتفصيل من دون أن يمنعه ذلك من ممارسة التجريب والتوظيف لثقافته البصرية وتكوينه السينمائي والتشكيلي. هذا ما يعمل الرياحي على تأكيده في روايته "الغوريلا" الصادرة لدى "دار الساقي"، كأسلوب خاص قوامه المشهدية في الكتابة الروائية.


"الغوريلا" رواية المهمشين. عالم يعج بشخصيات لا يتوقف نزيف خيباتها، وكوابيسها تضيع في متاهة الأسماء. شخصيات تعيش على التخوم بين الواقع والخيال، بين الوطن والغربة، بين عالم الجرائم والخير، وبين الحب والخيانة، حتى أنه لا يوجد بطل بحسب المقاييس المتعارف عليها في الرواية الكلاسيكية، بل الشخصيات المنسية هي التي تصنع الحدث. يتعرف المتلقي بالتدرج على ملامح الشخصيات وأبعادها النفسية وما يعتمل في أعماقها من مشاعر ورغبات. تتوارد أسماؤها وأغلبها نعوت؛ الغوريلا، شاكيرا، سردوك، حبيبة، بوخا. يختار الكاتب أسماء بعض الشخصيات عنوانا لأجزاء من الرواية ويتركها، على طريقة أسلوب تعدد الأصوات الذي عرف به فولكنر، كي تسرد طبيعة الظروف والبيئة التي نشأت فيها. غير أن اكتشاف الخلفيات الاجتماعية يظل مرهونا بتطور وقائع الرواية ومعرفة الفضاءات التي تجمعها.


رمزية الساعة
يعترض الاتجاه الروائي الجديد الاهتمام بعنصر الشخصية وتضخيم دورها في نسيج الخطاب السردي. يعتقد بعض النقاد أنَ كل شيء بما فيها الأدوات والأغراض المنزلية، يجوز أن يلعب دور الشخصية ويقوم بوظيفتها طالما أن الشخصيات ليست إلا كائنات ورقية يحدد الكاتب مواقعها. لذلك تفرض الساعة حضورها كإحدى الشخصيات الأساسية في رواية "الغوريلا". يعزز هذا الرأي، أن صورتها تتقاسم العنوان على الغلاف، كما أن تكرار مفردة الساعة يضفي على هذا المكوّن أحقية حضوره. ترمز الساعة إلى "عهد جديد"، فهي تحل مكان تمثال الزعيم الحبيب بورقيبه، الرئيس الأول لتونس، ممتطيا صهوة الحصان في العاصمة. هنا يرسل الكاتب سؤالاً إلى ذهن المتلقي: لماذا اختار النظام الجديد الساعة رمزا لعهده؟ هل هي مجرد تقليد لساعة بيغ بن؟ هل يريد الحاكم الجديد أن يقرن اسمه باسم هارون الرشيد الذي أهدى ساعة إلى أمبراطور فرنسا شارلمان، أو يريد أن يفرّق زمنه عن أزمنة غيره من الحكام الذين سبقوه؟ تزداد أهمية هذا المكوّن إذا ما أضفنا إلى ما يجمعه من أبعاد زمانية ومكانية في آن واحد، حيث تجثم على ساحة البرج، وبذلك تمتثل لشروط مفهوم الزمكانية بحسب ميخائيل باختين، "كثافة زمنية مشخصة يصبح من الناحية الفنية مرئيا كما أن المكان يكون معبأ ومستجيبا حركات الزمن".


الراوي المخاتل
بما أنَّ الراوي عنصر أساسي في خطاب الرواية، لا يمكن الاستغناء عنه بل يتوقف جانب كبير من جمالية الحكي على توظيف دوره واختيار البعد الذي يتموقع فيه. لا يستقر الراوي في "الغوريلا" على شكل واحد كما لا يلتزم زاوية واحدة بل ينتقل بين وجهات النظر المتعددة أو يتوارى وراء إحدى الشخصيات ليقدم ما يتعلق بأصل شخصية معينة مثلما نجد ذلك الأسلوب في تصوير أصل الغوريلا. يبلغنا الشيخ الذي كان يعمل موظفا في ملجأ الأطفال أن الغوريلا "كان كالمعطف الأسود في فصل الصيف ما من زبون يريده"، أو يظهر بصورة الراوي العليم مُبئّراً موقع شخصية أخرى مما يتيح له الاطلاع على سرائر الشخصيات الأُخرى، وذلك ما يتبين في المعلومات التي يقدمها عن شخصية سردوك.


سلطة الصورة
تبدأ الرواية بحدث الذروة. يعتصم الغوريلا فوق الساعة، وسرعان ما ينتشر الخبر وتحتشد ساحة البرج بالمتفرجين ويذاع الخبر من خلال الهواتف الجوالة وشاشات التلفزة، وكل من يقرأ الخبر ويشاهد الصورة يلتحق بالساحة، كما يحضر أصدقاء الغوريلا، وذلك يوحي بسلطة الصورة وتحولها إلى أداة ثقافية معبرة. هذا المشهد يشي بسيادة ثقافة الفرجة التي لا تلبي حاجات الإنسان الجمالية بل تهدف إلى دمج كل فرد في نسق منمط وتغييب الخصوصيات الفردية. لذا يتلاشى دور النخبة أو ما سمِّي بالطليعة الثورية والنخبة المثقفة. تنتهي الرواية بموت الغوريلا فتندلع التظاهرات والاحتجاجات وتسقط ساعة البرج. حدد المؤلف زمن صعود الغوريلا إلى الساعة، لكنه تجاهل الإشارة الى زمن مقتله وسقوط الساعة، حيث بين الزمنين تتداخل الأزمنة الأخرى. بعد كلمة "انتهت" في آخر صفحات الرواية، يخرج المؤلف من وراء أقنعة الرواة، وهذا نوع من ميتا - نص حين يفصح عن الدوافع وراء كتابة الرواية، وكيف شجعته زوجته أن يعتزل في قريته النائية لكتابة عمله الروائي الذي عجز عن كتابته خلال سنوات، وعندما انتهى من عمله في شهر كانون الثاني من العام 2011 وأخذ طريق العودة إلى العاصمة عبر القطار اكتشف أنَّ التظاهرات قد عمّت البلاد وأن الشعب أطاح الرئيس، كما حطم الجمهور ساعة البرج وهي رمز السلطة في العاصمة. هذا الكاتب يوهم المستعجل في آخر الرواية بأنه كمال الرياحي، لكنه ليس سوى شخصية روائية اخرى فقط داخل العمل التخييلي نفسه. تبدو الرواية في صورة عمل استشرافي وهذا ما حصل كثيرا في التاريخ عندما تنبأت الأعمال الأدبية بقيام الثورات والتمهيد لنضج شروط الثورة، لكن أهمية هذه الرواية تكمن في ما تختزنه من دلالات تنبوئية بمآلات الثورة وسقوط الربيع العربي في مستنقع الفوضى والارهاب وقد كان الحديث عن خلايا نائمة في تونس زمن كتابة الرواية يعد ضربا من الفانتازيا أكدت صحتها الحوادث بعد سنوات. فهي أقرب على ما يسمّى "الخيال السياسي" الذي تزعمه جورج أرويل في روايته "1984".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم