الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تعليق - أفواه وأصابع

سناء الجاك
A+ A-

"فليكن واضحاً أنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة التي نحن أعضاء فيها، لا تبارك ولا تقدّس الحروب ولا تقول عن أي حربٍ إنّها مقدّسة. ومن يقول هذا القول، أشك في أنّه سمع كلام الرب يسوع أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم" (المطران الياس عودة)


كلهم في انتظار الميدان وانقشاع غبار المعارك. كلهم، بالجمع والمفرد، يعضّ على جرحه وعلى أصابع خصومه ويمعن في قتل الابرياء في انتظار ساعة الحسم وتغيير المعادلات الحالية وتركيب المعادلات الجديدة. المشهد الراهن لا يعكس الا أفواهاً وأصابع، اما العيون ففي عياء او نشوة لتلقّي البث الحي المتواصل للانتهاكات الانسانية التي وصلت إلى أعلى المستويات مع ارقام قياسية للدم المراق، باسم الدين.
ولأن كل دين يصلح للاستغلال، السباق ساخن بين مستثمري الصراعات الدموية بغية ركوب الموجة. المؤسف ان ظهور الاديان والانبياء والدعوات ارتبط دائماً بالحروب. حتى ان عددا كبيرا من الدعاة والمتصوفين المسالمين لم يسلموا من الغرق في دمائهم لأنهم كسروا حلقة العنف في طريقهم الى الله.
هل تكمن العلة في الدين؟ بالطبع لا، بمعزل عن الايمان او الالحاد. يحمل التاريخ شواهد تؤكد أن النصوص المقدسة ترافقت مع ابداعات في الفكر والفن والجماليات. تكمن المشكلة في "الاتقياء الجدد" الذين بزّوا "المحافظين الجدد" في غلوائهم. ولأن النصوص تحمل في متنها تأويلات متناقضة، يستلّ منها "الاتقياء الجدد" ما يرفع منسوب الشحن لدى جماهيرهم بحيث يفقدهم الادراك السليم. العلة في البشر وغرائزيتهم ومهارة مَن يلعب على مقامات الغرائزية. العلة ايضاً في استخدام الكلمة التي يخلعون عنها ايقاعها لتصير رصاصة كراهية جاهزة لتصويبها الى حيث يلزم. وحيث يلزم، يرتفع خطاب الحقد والكراهية المشبع بحيوية فائقة.
كأنها عودة الى عصور ما قبل التاريخ، حين لم يكن للإنسان البدائي لا آلهة ولا ملائكة ولا شياطين، وحين لم يكن العقل قد خاض مغامراته الاولى واخترع ما يعبده وما يحلله وما يحرّمه ويدفع الآخرين للعبادة والحلال والحرام والعيب والخير والشر، حتى ينظّم مجتمعه ويسيطر عليه.
معروف ان هذه المغامرة ترافقت مع اكتشاف الفن ببدائية أهل الكهوف ومنحوتاتهم وحفرهم على الصخر، ليتطور العقل والفن بتزامن وانسجام مصدرهما البيئة الطبيعية لهذه المجتمعات، وصولاً الى كل هذه التاريخ الذي خلف مع الحروب والمقدسات والشياطين والممنوعات فنوناً وجماليات هي الارث الوحيد الذي يمنحنا القدرة على اجتياز الحياة. حتى الشيطان كانت له غواية أدبية وجمالية فائقة في تسويق مدرسته للناس، ليست الغرائزية عمادها، انما الفن، حتى قيل ان الشعراء اخوان الشياطين وان الرسم والنحت كفر لأنهما يجسدان ما يفترض بالله ان يجسده، وان الموسيقى حرام كونها تلهي عن الصلاة والتعبد.
لكن ما يحصل في عالمنا هذه الايام يدل على تقويض خطير ومفصلي لمفهوم التطور. كأن لم يبق لدى العقل البشري ما يخترعه الا آلات الدمار الكاسحة. أو كأن مفهوم الوحي راح الى غير رجعة، فلا نصوص او جداريات او موسيقى ترافق الفظائع التي ينتجها البشر ويستثمرها من يدير هذه اللعبة الجهنمية.
شر هذه الايام لا فن فيه. فقط بشاعة مركزة. ليس هناك من يسعى الى نحت تمثال يتحدى بروعته النسيان. عيوننا يكتسحها نصب بشع ضخم يخاف منه الاطفال، غالباً ما يُرفع لتكتمل عدة النصب التي تحوِّل الحشود الى بنك أهداف للالتحاق او الابادة. لا أغاني او همسات موسيقية، وانما اناشيد خالية من الروح والرهافة، عالية النبرة لأن قوامها التهديد والتحشيد ومنع الأذن من التقاط ايقاع او نغمة تهذب الروح، ما يؤدي الى تعويد اللسان على الحدة والحنجرة على الصراخ، وما يؤدي كذلك الى استخدام كلمات قاسية جارحة متعالية لاغية للجميع، ليبقى الصوت الواحد هو المهيمن.
الايدي لا رقص فيها ولا تجيد العزف، أصابعها هي ايضاً ادوات للتهديد بالويل والعراك والتشنيع والضغط على زناد الكره وعلى مفاتيح القوة التي تبيد. لا توازن. فقط كمٌّ هائل من الشر اللامبالي يفوق الأبلسة ويجعل الشياطين التقليدية بريئة رهيفة حيال المخططات المتواصلة التي لا يهتم واضعوها كثيراً بالعمل على تسويات يستثمر فيها هذا الشر. لا توازن ولا حرمة للموت ولا خشية او خشوع في ممارسة الطقوس الدينية. الفجور هو الطاغي. لا احترام للشعور الانساني ومفهوم الألم والحزن والغضب. فقط الحقد الذي يمنح قدرة هائلة على تحمل الافواه التي تعض الاصابع وتواجه بعضها البعض بنظرات ومواقف متصلبة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم