الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تجربتي في الحراك

المصدر: "النهار"
فراس حمية- ناشط ومسرحي
تجربتي في الحراك
تجربتي في الحراك
A+ A-

"شو يا إبن الشارع، نازل عالشارع تتظاهر". بهذه الجملة قابلني جاري في حي السلم أثناء عودتي ليلاً من تظاهرة 29 آب. كانوا كما في كل يوم ثلة من الشبان مجتمعين أمام الزاروب إلى جانب "الإكسبرس" يدخنون النرجيلة. أغلبهم عاطل عن العمل أو يعملون بـ"اليومية".


حين وصلت بدأت حفلة المزاح المصحوبة بعبارات حفظوها عن ظهر قلب من الإعلام. أحدهم ناداني بالمندس وآخر قال لي ضاحكاً: "شو يا إبن الدولة العربية الصغيرة"، "إنت واحد من شيعة السفارة". مع كل جملة كانوا ينفجرون ضحكاً، وكنت أضحك معهم، كانت أسباب ضحكتي تختلف جذرياً عن أسبابهم.


لم أشعر بالمهانة بسب ما أطلقوه من نعوت. على العكس، شعرتُ بالفرح والقوة بينما كانت كلماتهم تنم عن ضعف واستسلام. منذ بدء الحراك المدني في لبنان أحسست بمسؤولية وقررت المشاركة والدعم بكافة الوسائل المتاحة لي وعمدت إلى تحريض أصدقائي واستفزازهم للنزول إلى الشارع والمطالبة بحقوقهم. أعترف بأنها مهمة صعبة ولم تلق أذانا صاغية خاصة ممن إعتاد ظروف حياته في ظل هذا النظام اللاعادل وتكيّف مع النظام كأنه قضاء وقدر لا مفر له.


 


"خالف تعرف"


إتهموني بأنني من أتباع نظرية "خالف تعرف". أن يقرر شخص واحد من جماعة أن يكسر المألوف يعتبر أمراً غير إعتيادي في بيئة إعتادت على التنميط في السياسة والدين والأفكار والثقافة.
جاري أبو أنيس يريد حلاً عسكرياً ويعتقد بوجوب تسليم قيادة الحراك إلى بعض الضباط في الجيش كي تنجح الثورة لأنها بحاجة إلى قيادة قوية تفرض مطالبها بالقوة. أما علي، بائع الثياب، فيعترف لي بأنه ضد النظام الطائفي وضد الطبقة الحاكمة ويبرهن ذلك بقوله: "أنا أشرب الكحول ولا أنتمي لأي حزب لكنني سيكولوجياً أخاف أن يتعرض أحد زعماء الشيعة للأذى، ولا أعرف السبب الذي يجعلني أشعر هكذا، أريدهم أن يرحلوا لكنني خائف في الوقت نفسه وهذه حال معظم الشبان في بيئتنا".
جارتي العجوز تحمل أخبارها التي سمعتها بالتواتر، قالت للدكنجي باللهجة العامية الجنوبية: "نص البنات بالإعتصام الله يستر عليهن، شو ما عندهم أهل يضبوهن". أما إبنها الملقب بـ"مشكاح الخضرجي"، 35 سنة، ففاتحني بالقول بعد أن دعوته للنزول معي إلى #الحراك: "نيالك، شفتك عالتلفزيون، عندك رفقة مسيحية كتير وعم تحكي معهم وعم تختلط معهم بس أنا ما بعرف حدا وبستحي إنزل وتيابي مش حلوين، كل الصبايا والشباب بالمظاهرة أغنياء ومثقفين، لشو بدي إنزل بهدل حالي ومش فهمان شي من شي".
كنت أود أن أفتح له حقيبة جيبي وأقول له: أنظر، إنني أشبهك في الوضع المادي وكلنا نعاني بسبب هذا النظام وثيابك جميلة والمسيحيون ليسوا بعبعاً. شارك معنا وتحرر من قيودك وأحكامك المسبقة فنحن جميعاً نعاني من البطالة. فاجأني بالقول: ماذا تعني كلمة "البطالة"! أجبت: نحن عاطلون عن العمل المنتج.


 


نصيحة


صديقي بلال، يعمل في ورش البناء، 34 سنة، أسدى لي نصيحة بعدم النزول إلى الحراك خوفاً على سلامتي وقال لي: "ما بقى تنزل عالمظاهرات لإنو صار ميت شي خمس أشخاص تحت، شو الله جابرك تموت أو تتشوه وما رح يطلعلك شي وما رح يتغير شي".
حاولت إقناعه بأن أحداً لم يمت وبأن ما سمعه لا يغدو سوى شائعات ملفقة لا صحة لها وتهدف إلى إيهام الناس وتخويفهم كي لا يشاركوا في الحراك لكنه لم يقتنع وظل مؤمناً بأن عدداً من القتلى سقطوا في المواجهات، ولم أستطع بطبيعة الحال أن أكتشف مصدر معلوماته الخاطئة لأنه شخصياً لم يكن يدري كيف وصلت إليه وترسخت في ذهنه.
لم أيأس من محاولة جمع بعض الرفاق للمشاركة في الحراك وعرضت عليهم النزول سوياً لكنني في كل مرة كنت أصطدم بإجابات غريبة. صديقي عباس إبتسم وقال لي: " ما معي ثمن شفرة حلاقة ولا أجرة طريق للنزول إلى المظاهرة". كانت ذقنه غليظة وشعيراتها تكاد تصل إلى عينيه وحاجباه لا فاصل بينهما لكأنهما إمتداد للتعب والمعاناة.
أحمد ذو العينين الحمراوين من كثرة تعاطي المخدرات، سخر من طلبي وقال:" ما دام الحشيش موجوداً في السوق فلا داعي للثورة، وعندما تنقطع حشيشة الكيف يكون لكل حادث حديث". أما زميلي في العمل المنتسب إلى أحد الأحزاب فقد مزج بين المزح والجد وسألني: "كم تقبض من حملة طلعت ريحتكم؟" في إشارة إلى أن الحراك ليس وطنياً وممولاً من الخارج.


 


باص رقم 4
بين الرحلة في الباص رقم 4 من حي السلم إلى وسط البلد وتحديداً إلى ساحة الشهداء كنت أشعر بأنني أسافر من دولة إلى أخرى، كتلك الطيور التي تهاجر من الشرق إلى الغرب، كنت أشعر بأنني أعيش في عالمين متناقضين مختلفين تمام الإختلاف، وهذا سبب إضافي دفعني إلى المشاركة في المطالبة بالعدالة الإجتماعية. لكنني كنت أدرك أيضاً صعوبة التحرر من هذا النظام لدى أصدقائي ولدى كل من قابلتهم حتى في الحراك.
صديقي في الفايسبوك كتب التالي: "أؤيد الحراك لكنني ضد تشويه إرث الشهيد رفيق الحريري في وسط البلد وتحويله إلى سوق "أبو رخوصة". الكل يؤيد الحراك مع بعض التحفظات وتبعاً للمثل القائل: حادت عن ضهري بسيطة، وكلن يعني كلن ما عدا زعيمي.


 


مدعاة للسخرية


لقد كنا مدعاة للسخرية من مناصري الأحزاب القوية والكبيرة. أخي قال لي: "أنتم شلعوطين ونص حاطين حلقات بدينتكم ورابطين شعراتكم، بدكم تاكلوها قتلة وتهربوا لإنكم مش رجال". تعجبت وتساءلت: متى كانت الرجولة بالعضلات؟!
الدركي إبن جارنا رآني في الحراك وعندما صادفته لاحقاً قال لي: "ما ذنبنا نحن؟ إننا ننفذ تعليمات القيادة". أجبته: "نحن نعلم أن لا علاقة مباشرة لكم، لكننا نعرف أيضاً بأنكم جنود غير قادرين على التغيير، وإن حراكنا يسعى لتحصيل حقوقنا وحقوقكم وحريتنا وحريتكم".
في كل مرة، أذكر المطالبة بالحق في الزواج المدني وفصل المؤسسات الدينية عن الدولة و#العلمانية وغيرها من الحقوق تمتعض أمي وتعتبرها كفراً. أما حسين، السجين السابق والذي لا يعرف القراءة والكتابة يعترف بتعصبه للزعيم ويقول لي: "لا أسمح لأحد أن يمس الزعيم".


 


"أنا حرة"


أثناء الحراك تعلمت الحب. كانت حبيبتي الطامحة إلى حياة أفضل تود الهجرة ولكنها وجدت في الحراك بعض الأمل. كانت بمثابة النموذج للمرأة الثورية الحرة المندفعة إلى التحرر. شاركت في كل التظاهرات وخاطرت بنفسها وهربت من عناصر الأمن بعد ملاحقتها بسبب التصوير. دائماً كنت أجدها في الصفوف الأمامية تهتف بشغف وحماسة غير خائفة من قوات مكافحة الشغب أو من الزعران الذين كانوا يقومون بغارات على المعتصمين والمضربين عن الطعام.
أراد الرجعيون تشويه صورة الفتيات والنساء في الحراك فقاموا بانتقاد ملابسهن الداخلية وعندما سمعت بالأمر من وسائل التواصل الإجتماعي، قالت لي: "اليوم سأنزل بلا صدرية إلى الحراك تماماً كما فعلت نساء فرنسا قديماً إبان الثورة الأنثوية، وليذهب المجتمع الذكوري الطبقي الطائفي إلى الجحيم".
أذكر بعض الشعارات الجميلة التي حملتها النساء والفتيات: "شرفي ليس بين قدمي" و "أنا حرة بتصرفاتي".



إننا مذلولون مهانون ولهذا السبب قررت أن أكتب... لنستمر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم