الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"عبور" مناجاة زينة قاسم في ذكرى رحيل طلال الخامسة

المصدر: "النهار"
رلى راشد
"عبور" مناجاة زينة قاسم في ذكرى رحيل طلال الخامسة
"عبور" مناجاة زينة قاسم في ذكرى رحيل طلال الخامسة
A+ A-

ينبَعُ كتاب زينة قاسم من الفقد، غير انه ليس بهذا المعنى كتاب حِداد، وإن حمل في كنفه كمّا من الأسى المُبيّت. يتراءى النص تجربة مطهّرة من الوجع، نسق من "كاثارثيس" بالمعنى الإغريقي.


تمنح زينة قاسم كتابها الصادر بالفرنسية لدى منشورات "تاميراس" وبالعربية لدى "دار العلم للملايين"، عنوان "عبور"، والحال انه يتبدّى قرينة على الإجتياز القسري الذي بدأته في صبيحة التاسع عشر من تشرين الأول قبل خمسة أعوام، حين صدَمت إحدى السيارات ابنها طلال خلال توجهه الى المدرسة، لتتركه على قارعة الطريق، جسدا بلا روح.


يشرع السرد على يوم ولدت قاسم ابنها ليتواصل مع لحظة عانقته وهو جثة، في أعقاب #الحادث الذي أودى به في السابعة عشرة. أما مبرر الموازاة بين اللحظتين فإحساس واحد تسلل إليها. في الحالتين شعرت المرأة بانشطار في كينونتها، بأن جزءا منها صار ملكا لولَدِها، في حين ظلّ الثاني ملكاً لها. وفي مكان متقدّم من الكتاب ها هي تستدعي فكرة الإزدواجية أيضا لتضارع فكرة الإنقسام، إزدواجية عمليّة وليست مَرَضيّة وفق توصيف قاسم. ها هي تتحدث عن أناها المألوفة التي غادرتها، وعن شخص آخر بات يسكنها.
تتبدى جميع تلك التبدّلات الجسدية - الحسيّة- النفسانية الطارئة على قاسم بمثابة تمرين تحضيري لمقاربة مستجدة للمُسلمات ومن بينها الإقتناع بوجود حاجز فاصل بين الهنا والهناك. تكتب قاسم عن قدرتها على تبادل أطراف الحديث مع طلال راهنا، ذلك انه بات في عرفها أكثر حضورا من السابق. هذا في حين تصير اللغة بمثابة معونة تلعب دورا في تحقيق الإتساق.
إيقاع الفصول مضبوط من خلال اقتباسات ترتفع بالكتاب إلى فحواه المرجوة، إلى التأمل في مصاب أليم بغية أن يصير حافزا للمضي وليس ذريعة للتقهقر. ها هنا ولهذه الغاية لوذ بصوت محمود درويش ومايكل أنجلو ومحمد الماغوط وجان دوروميسون، وها هو جلال الدين الرومي يدعو في مطلع الفصل الأول 'لا تجزع من جرحِك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟". يتقدم كلام الرومي الحديث عن خشية الوالدة على ابنها من أن يكون اختبر ألم الموت، غير ان الطبّ هدأ من روعها جازما أن المنيّة لاقته في سرعة ورأفة. فارق الإبن الحياة من دون أن يتسنى له إدراك ما ألمّ به، فتجد الوالدة في "الموت الرحيم"، تعزيةً.
يفلش الكتاب الآتي بصيغة المتكلّم، أوراق الرحيل وطقوسه ويسرد كيف يستطيع الموت تخثير الوقت. ها هي قاسم الراوية والمرويّة في آن، تستعيد زياراتها إلى مثوى ابنها الأخير والتي ظلّت تشغل يومياتها، طويلا. تخبر كيف غدا التجاسر على خربطة هذا التقليد مرادفا للتقصير في الواجب وحرمانا من مساحة السلام الداخلي والسكينة.
في "عبور" بوحٌ قريب جدا وقادر يمرّ بمحطات موجعة كما حين يجري وصف قسوة الإنفصال من طريق هُنيهات القُرب المشتهاة مع من رحل. ها هي قاسم تخبر مثلا في أعقاب وداع الإبن عن عجزها عن إيجاد نظارتها الشمسية فتظنّها سقطت في المقبرة بينما كانت تلقي على وجه الإبن نظرة أخيرة. تسرد ذلك لتتمنى لو أن عينيها مكثتا أيضا في ذلك المطرح، إلى جانبه.
"عبور" هو نص أنثوي بل أكثر هو نص أمومي يقشر وحتى القعر مفاهيم الفوز بالحياة وخسارتها، ألا تكتب قاسم أنها لا تزال تحلم لإبنها بالكثير وأن الحلم المتواصل منذ وفاته ليس سوى أسلوبا أخيرا لعيش الأمومة؟
"عبور" هو فعل إيمان أيضا، ذلك ان الله يستوطن جميع مفاصله. ترى قاسم في التسليم بمشيئته والتواصل من خلال الصلاة وسيلة وحيدة تسمح للإنسان بتخطي ثوبه المادي وبلوغ بُعد الحياة الروحاني.
يُقفل الكتاب على اقتراض لكلام القديسة تيريزا الطفل يسوع حيث يرد "أنا لا اموت بل أدخل الحياة" ليجري ذرّ الرجاء على نص يتخبّط في الأسئلة المؤرقة. وهذا الرجاء عينه شكل الحافز لولادة جمعيّة "رودز فور لايف" المرصودة لمعالجة إصابات الحوادث والتي ترأسها قاسم وستفيد من مردود الكتاب.
يقول "عبور" على نحو ما أن الكتابة تثبيت للذاكرة ضد كل محاولة تنصّل. وتقول قاسم انها فقدت طلال على الأرض لكنها باتت تبحث عنه في البحر، تبني السفن لتذهب إليه.
العبور الى المياه، نسق من الولادات الجديدة التي تبلسم شيئا من الألم ربما، أو تروّضه، في الحدّ الأدنى.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


*توقّع زينة قاسم "عبور" في يوم رحيل طلال في التاسع عشر من تشرين الأول 2015، في جامعة القديس يوسف، طريق الشام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم