الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

غياب - سهيل بشروئي من العالم العربي إلى العالم الإنساني

وحيد بهمردي
A+ A-

في الثاني من أيلول الحالي وافت المنيّة الدكتور سهيل بشروئي في ولاية أوهايو الأميركيّة. كنت طالبًا في الجامعة الأميركيّة في بيروت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما كان الراحل يدرّس الأدب الإنكليزي ويرأس دائرته، وقد كان أوّل أستاذ يحمل هويّة عربيّة يُعيّن رئيسًا لدائرة الأدب الإنكليزي في تلك الجامعة التي أمضى فيها ثمانية عشر عامًا (1968 - 1986).


قد يكون بشروئي أحد هؤلاء الذين سوف يحيون في ذاكرة الكثيرين ممّن عرفوه عن كثب لأنّه ترك إرثًا ثقافيًّا وعلميًّا وإنسانيًّا يبقيه حيًا في ذاكرة الأجيال القادمة؛ فقد بدأ حياته العمليّة أكاديميًّا يمتهن التعليم من أجل تنمية الأجيال النّاشئة، وانتهى شخصيّة عالميّة تعمل على نشر مبادئ السلام والوحدة بين المكوّنات الدينيّة المتنوّعة للعائلة الإنسانيّة الواحدة.
تعود العلاقة المعنويّة بين بشروئي وبيروت إلى مطلع القرن العشرين عندما قدم والده بديع من مدينة بشرويه في إقليم خراسان الإيرانيّة إلى بيروت للدراسة في جامعتها الأميركية. بعد تخرّجه، انتقل والده إلى فلسطين وأقام في حيفا قبل أن يستقرّ في مدينة الناصرة حيث وُلد سهيل في العام 1931. كان سهيل في العقد الثاني من عمره عندما انتقل والده إلى مصر ليقيم فيها بقيّة حياته. غادر بشروئي مصر إلى بريطانيا لدراسته الجامعيّة، ونال إجازة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي لتبدأ رحلته الطويلة في التعليم الجامعي التي امتدّت لعقود تنقّل خلالها بين أكثر من جامعة في أربع قارات.
استمعت إلى العديد من المحاضرات التي ألقاها في مناسبات مختلفة، ولاحظت أنّه كان يركّز في أحاديثه على مبدأ السلام والوحدة بين أبناء البشر وعلى نبذ التعصّبات. كان يعتقد أن دراسة الأدب مدخلٌ إلى الفكر الإنساني الجامع. لطالما كان يستشهد في محاضراته الجامعيّة وحتّى في مقابلاته المتلفزة بأبيات لابن عربي يقول فيها: "لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ - فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ - وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ - وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ - أدينُ بدين الحبّ أنّى توجّهت - ركائبُه فالحبّ ديني وإيماني".
لقد كان "دين الحبّ" ذاك، هو موجّه شراع حياته التعليميّة والثقافيّة والإنسانيّة، وقد أخذه إلى جامعة ماريلاند في أميركا ليرأس فيها الكرسيّ البهائي للسلام العالمي (1992 - 2005)، وذلك بهدف نشر ثقافة السلام في عالم تنهشه شتّى أنواع التعصّب والحروب والتّخلّف. أراد أن يخلّد إيمانه بدين الحبّ الجامع بين الأديان من خلال تأليفه كتابًا نُشر في طبعة إنكليزيّة وأخرى عربيّة تحت عنوان "تراثنا الروحي من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة" (دار الساقي، 2012)، يحاول فيه أن يبيّن كيف أن التراث الروحي هو تراث إنسانيّ عالميّ وليس ميراثًا حصريًّا لقسم أو لأقسام محدّدة من البشر تريد احتكار الله ورسالاته لنفسها، وتحرم سائر المجموعات البشريّة منها. لقد آثر بشروئي استعمال عبارة "التراث الرّوحي" بدل "التراث الدّيني" في سرده للأديان التي توالت وتتوالى في تاريخ البشر لكي يؤكّد أنّ الأبعاد الروحيّة في الأديان هي التي توحّد أبناء الأرض وتحقّق السلام، وليس التقاليد الموروثة التي تفرّق بين الناس وتحوّلهم إلى شيع ومذاهب متناحرة.
رأى بشروئي في جبران والريحاني نموذجين مثاليّين للجمع بين الشرق والغرب، فانكبّ على دراسة أدبهما ونشر العديد من الدراسات عنهما حتّى صار مرجعًا عالميًّا للدراسات الجبرانيّة، فعُيّن مديرًا لكرسي جبران للقيَم والسلام في جامعة ماريلاند، واستمرّ في إدارة هذا الموقع حتّى آخر حياته. نشر العديد من الدراسات عن جبران وعن أدباء لبنان في المهجر باللغتين العربيّة والانكليزيّة، منها كتاب "الأدب اللبناني بالانكليزيّة" (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنّشر، 2000)، وكتاب "جبران الخالد" (دار الساقي، 2008)، وكان منكبًّا على تأليف كتاب عن أمين الريحاني قبل أن يحول الموت دون إتمامه.
على الرغم من جذوره الإيرانيّة، كان بشروئي يشعر بانتماء عميق إلى المجتمع العربيّ الذي وُلد في فلسطينه وترعرع في مصره ولمع في لبنانه. أراد قبل وفاته بخمس سنين أن يعبّر عن هذه العاطفة من مكان إقامته في أميركا، فألّف كتابه "عبّاس أفندي في الذكرى المئويّة لزيارته إلى مصر" (منشورات الجمل، 2010) ليربط بين عقيدته البهائيّة المتمثّلة بشخص عبد البهاء عبّاس، وانتمائه إلى المجتمع العربي، المتمثّل في كتابه بمصر، وقد كان يشاهد كيف أنّ هذا المجتمع يتخبّط في أزمات متتالية من دون أن يجد طريقًا للخلاص، فكان نداء عبد البهاء الداعي إلى الوحدة والسلام وترك التعصّبات والتقاليد البالية، هو ما أراد بشروئي إبلاغه إلى هذه المجتمعات الّتي تلتهمها الحروب وتنهشها التعصّبات.
إنّ المتأمّل في سيرة بشروئي وفكره ومراميه، وفي رحلته الطويلة من الناصرة إلى رحاب العالم، قد يخلص إلى وصفه بأنّه كان رجلاً عجميّ المحتد، عربيّ الهوى، عالميّ الانتماء، إنسانيّ الهويّة، في زمن يتنازع فيه العجم والعرب، وينقسم العالم على نفسه، ويتخلّى الإنسان عن إنسانيّته!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم