الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

عسل مغشوش

علي السباعي
A+ A-

ذاتَ طفولةٍ كان المطرب داخل حســن، رحمه الله، صديقـاً لوالدي الخياط، يأتي إلى دكـان أبي يغنّي له يوميا. صباحَ كلّ يـوم كنــتُ أُصغـي إلى غنائه وأحفظه. كـان عملي حفـظ الغناء وأنا منهمكٌ بمساعدة والـدي كـي لا يحــس داخل حسن إذا حفظتُ غناءه جيداً أكرمني والــدي أيما كرم وإذا لــم أحفظه جيداً أشبعني ضرباً.
ليلاً أُعيد ما غنّاه المطرب داخل حســن لوالدي الــذي يبدأ بالسـكر.
* * *


صور سندريلا
أحـلى الدبكات، أجمل الرقصات، صاحبت زفافي. مــا إن دخلــت عروسي غرفتها، حتى فوجئت بصور الفنانــة الراحلة سعاد حسنـي تمــلأ غــرفة النــوم. طلبـت منــي عروسي إزالة كــل الصور من على جدران الغرفة قبل دخولي بها. رفضتُ، فتعنتت وتمسكت برأيها. نشـب خلاف كبير بيننا طوال ليلــة الزفاف. صباحاً تدخل أهلنـــا لفض الخلاف ولكــن من دون جدوى. ظلـت العروس ثابتـــةً على رأيهــا، وأنا تمسكت بإبقاء الصور من منطلق أنــي رجل ريفي ولا أقبل أن تملي علــيَّ امرأة رأيهــا حتى لو كانت زوجتي. انتهى الأمر بالطلاق.
* * *


صفّارة
أعمل مديراً لمدرسةٍ ابتدائية عريقة. رغم كوننا نعيش في القرن الحادي والعشرين ألا أن أدواتنا كانـــت بدائية. بسبــب انقطاع التيار الكهربائي المستمــر كنا نلجأ إلى استخدام صفارة معلّم الرياضة بدلَ استخدام الجرس الكهربائي. وضعنــــا جدولاً لكــلّ يومٍ يصفـر فيه معــلمٌ أو معلمــةٌ.
لفتني أحد المعلمين كلما أطلقت صفّارةُ الذهاب إلى الدرس هبّ من جلسته بيننا وذهب مسرعاً. في مراتٍ أخرى كان يظل جالساً حتى وإن انطلقــت الصفارة مدويةً وبقوة. ملأني الفضول فسألتُ أحد المعلمين عن سرّ تصرف هذا المعلم القدير فجاءني الجواب صاعقا: إذا كانت الصفارة تطلقها إحدى المعلمات يهرع المعلم بشغفٍ ليأخذ الصفارة ويضعها في فمه، يتذوقها ويمتص رحيقها.
* * *


ضحية
شابة سمراء ذات ثلاثة وعشرين ربيعاً، متشحة بالسواد، تجلس أمــام إحدى بوابات القصر الجمهــوري. تضع دمية بلاستيكية في حضنها. تناغيـها بلا ملــل. سألــت عنهــا فقالوا إن القوات الأميركيــة قتلــت طفلتها ذات الربيع الواحد وزوجها ذا الخمسة والعشرين ربيعا... من طريق الخطأ.
* * *


غنوة
كانت جارتنا، شابةً جميلةً، تبدأ بالسكر مع غروب الشمس حتى يطبق الليل سطوته. حين تسكر وتصل إلى الذروة، تطلب من أمها أن تجلب لها أياً كان، ليكتب لها رسالةَ حبّ. أمّها المسكينة، حفاظاً على ابنتها، كانت أغلب الأوقات تأخذني من أمّي إليها متوسلةً وراجيةً أن تعيدني سالما. كنتُ كلّ ليلةٍ اكتب رسالةَ حبّ. كانت غنوة تُملي عليَّ أشواقها ولواعجها وعذاباتها وفقداناتها علـى شكلِ أغنيةٍ جنوبية حزينة. بعدها تنخرط في بكاءٍ مرّ وتجهش بالعويل وتروح تنتحب وتلطم صدرها النــاهد، فتفيض دموعها وتُغرِق وجهها وبدلــة عرسها البيضــاء التي ترتديها كلّ ليلةٍ علــى الرغم من مضـي أكثر من خمس عشرة سنةً على غياب خطيبهِا المسيحيِ بائع الخمر الذي هجرها.
* * *


غزل
كانت لعبة طفولتنا في العــراق إبان حـرب الثمانينـات أن نصنع صــواريخَ مـــن ورق دفــاتـــر دراســـتنا ونطلقــهـــا علــى بنــــات جـيراننا.
* * *


متفائل الفردوس
شــابٌ رافدينيّ يافــعٌ حالـــمٌ طموح، جلب أَول أيام التحــرير خمسمئـة حمامـــة إلـى ساحة الفـــردوس، ليحـاكي ساحة النصر فـي باريـــس بطيورهـــا التـي تملأهــا حيـاةً وهديلاً.
ملأ الفردوس بيماماته البيض التي تحلـق سعيدةً مطرِّزةً سمـاء بغداد بالحــرية. في ثاني أيام الاحتلال جاء ليجـــــــد ثلاثمـــئة وخمســـين حمامـــةً قـــد اختفت. ســأل ودمــوعه ملءُ مآقيه: مَن سرق طيور السلام؟ فأجابه صبــيّ اسمــــر صغيــــــرٌ يلهــــو فـــي الفـــردوس، قال: رجال الشرطة.
* * *
صوت العندليب
صباغُ أحذيةٍ نافَ على الخمسين، تسريحةُ شعرِ رأسه تشبه تسريحة العندليب الأسمـر. يلقّبونه "الواوي" لرشاقته وحركته السريعة المخاتلة في القتال على سواتر المعارك إبان الحرب. يعيش الآن وحيداً فريداً في غرفة بسيطة من غرف فنادق شارع الجمهورية في الناصرية.
بعــد ســـقوطِ الصنـــم، أثنـــاء الحملــة الانتخابية الأخيرة، كان منهمكاً في صبغ حذاءٍ ايطالي لأحد المرشحين القادمين مــن خـارج العراق. ســأل "الواوي" بعجرفةٍ وتعــالٍ واضحين: "مَن ستنتخـب؟" فأجابه بحرقةٍ باديةٍ مـن حركات يديه وهمـــا تحركان قطعـة القمـــاش برشاقةٍ وتوتر فوق جلد الحذاء ومن غير أن يرفع رأسه: "لن انتخب أحدا".
رشيقـــةٌ حركاتُ أصابعــه المصبوغة بالدهـــان الأحمــر. نقرةٌ خفيفةٌ علــى فردة الحـــذاء اليسرى للمرشح الأنيق، بعدها قال بشدةٍ وامتعاضٍ وهو ينظر فـي عيني المرشح باستهجان: انتهى صبغ حذائك، أستاذ.
قال له المرشح بمودةٍ مبالغٍ فيها كسراً لغضبه المفاجئ، وهو يُنْقِدُه أجرَه: "سيضيع صوتك!".
ضحك صبّاغ الأحذيـــة ملء صدره الخَرِب مـــن تدخين السجائر الرخيصــة، حتــى إن المــارة في شارع الجمهورية وأصحــاب المقاهـي والمطاعم ومحــلات الملابــس المحيطة بجلسته انتبهــوا إلى ضحكته الهادرة الهازئة كونــه مــن الذين لا يضحكــون بسهولة فـــي مدينــة الناصرية. علّق مختنقـاً وهو يهزّ يده اليمنى هازئاً، وحضــر صوتهُ بالياً عتيقاً حزيناً جريحاً كأنه آتٍ من سنوات قحطٍ وجدب طويلين: يضيــع! أنا مجرد صبّـاغ أحذية. الله يخليك، أستاذ. هـو آنه ضايع. آنــه كلــّي ضايع.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم